تركتم أغلى وطن, وهجرتموه, ونكلتم به يوم أن وصلتم أرض الجوار, لاعنين كل شيء فيه, فكنتم شر سفراء لوطنكم, وقدمتم أنفسكم سلعة رخيصة في سوق النخاسة..
لست قاس عليك أيها المغترب الذي يعتصر قلبي وينزف دماً لما تناله, لست أكثر من مقهور عليك ومنك.. القصص كثيرة في خيالاتك, قبل أن تهجر هذا الوطن بطرق شرعية تكبدت وراء مشروعيتها بيع كل ممتلكاتك, أو بطرق غير شرعية وضعت حياتك رهن مغامرتها الشقية.. هجرت زوجة تذرف الدمع, واماً ترقب النجم ليحمل منك ضوء, وطفلاً لم يذق من حنانك شيئاَ, سوى أثر بغيض للعملة الصعبة.
جعلنا الفأر يستوطن الأرض, نخر السد, فحاصرتنا المياه لنهرع راحلين, وتركنا أرضنا.. لم نفكر في العودة لردم ما تخرب وواصلنا المسير نحو أرض لنا ذهبت مع الريح في ذات بيعة بوار.
هنا الآن أقف لأقول ان لك نصيباً من الجرم فيما تناله من ويل في أرض الجوار, فعندما وصلت إليها وقد كنت تحسبها الباب الذي سيصلك إلى الفردوس, لم يك يجول في رأسك سوى تحسين حالك بما ستجلبه لك تأشيرة هذا البلد من مال وجاه وتغيير في الحال, لذا قدمت كل إمكانياتك لتنال حظوة كبيرة, فكنت تعمل في شتى الأعمال التي لم تحاول القيام بها في وطنك, فأصبح بإمكانك العمل في أوقات طويلة وتحت أي ظرف أو ضغط, وقدمت من التنازل والجهد ما يكفي لجعل وطنك الأم يفوق هذه الأرض التي وطأت ترابها غريباً تقتات الخوف الوجودي المقيم.. عرقك الذي بذلته هناك لو تفانيت به هنا لكانت سنابل الخير في الوطن تجعل رؤوسنا تعانق السماء, ولكنا جميعاً وجهة يقصدها الجميع عوضاً عن هذا التشرد الذي يسلبنا أرواحنا وكرامتنا على عتبات بلاد المسلمين.
ايها المغترب, أتتذكر كم لعنت وطنك!, كم غاليت في تصويره كمقبرة أو كصحراء قاحلة لتثبت للجميع أنك وطأت الجنة بعد أن نفذت بجلدك من قعر جهنم!.. إنك الآن تشرح معاناتك, تعتصر وتتلوى من جور الظلم وتطلق زفراتك بلهجتك الجديدة التي حاولت بها إثبات وجودك في النعيم, نسيت العبارات التي ألفت عليها, وصرت تهاتف الجميع بنبرة لا تشبهك تماماً, دخيلة وسامجة..
أتتذكر حبيبتك أو زوجتك التي عايرتها وفاجأتها بأنك سوف تكمل حياتك برفقة " الأجنبية " التي يفيض منها الغنج والدلال وتنساب من على يمينها وشمالها أنهار الجنة.. انسيت اثناء عودتك كم تأففت من فراشك الوثير بعد ان عشت به دهراً وأشعرت من حولك كم صرت مخلوقاً آخر لا يشبهك!.. كم انأ قاس عليك الآن وأنا اسرد هذه السلوكيات وأنت تتجرع ويلاً ما بعده ويل وكأني أقف بكلتا يدي مع التنكيل بك!.. ولكم قد أبدو شامتاً بك لدرجة تكره بها الحروف التي يطلقها المرء في أوقات الوقوف مع الذات!.. ولست في ذلك بشيء ايها الألم الذي ينغص حياتي ويعتصر مهجتي, فقط وخزات الم لنقف قليلاً وندرك ان لنا يداً في التقليل من قيمتنا عند من يمتهن انسانيتنا ويقدح بعطاءنا, عندما كنا نرسم صورة سيئة لبلدنا وان لا خير فيها وعمقنا كل شيء بسلوكيات تعبر عن سوء حملنا لرسالة " سفراء البلد ", وعندما حاولنا الانسلاخ منها كلية " من لهجتها, عاداتها, جمالها,.. ".
////////
من مثلها من ؟!
ألطاف الأهدل
أرض العجائب الجغرافية مهد الرؤى والافكار والاحلام المرسومة على جذوع الاخوين منذ الأزل, أرض الفطرة الانسانية ومكارم الشيم الاجتماعية, بلاد المبعدين عن طعم الانانية, اولئك الذين فتحوا ابواب حدودهم الجغرافية للغادين والقادمين من اوطانٍ لا تعرف لشمس الحقيقة سطوعاً ولا تفهم لميزان العدل وجوداً.. هي اليمن, بلاد المتعبين الذين لا تكسر ظهورهم اثقال الفقر ولا تلوي اذرعهم حبال الحاجة ولا تطوق حرية السنتهم قيود الخوف والنفقات.. هي اليمن, قبلة الباحثين عن الأرض العفراء وقباب المساجد السامقة في وجه التاريخ وأزقة الايام الخوالي, أيام السندباد وعلا الدين والمصباح السحري وبوابة السمسم التي لازالت مفتوحة حتى اليوم.. بلاد العرم التي احتضنت جنات الدنيا يوماً، ثم شاء الله لها أن تنتهي ليبدأ عهد تاريخي وحقبة بشرية جديدة، تعيش على انقاض وطن كان وإنسان لاتزال سلالته باقية حتى بعد أن لم يعد للسد الذي أورقت حوله الجنات أي أثر..
هي اليمن وطن الرمل ومدرجات الطين الخصب وتلال السنابل اليافعة واحواض قصب السكر الذي يقطر حلاوة كالعسل, هي أرض العنب الذي تتدلى عناقيده كالمزن في سماء البساتين وأرض الرمان الذي ترتص صفوفه خلف استار ثمرة ذكرها القرآن واجزل في وصفها الانسان في كتب الطب والتبيان.. هي اليمن بيت القصيد العربي ونقطة البدء التي ليس لها انتهاء وسفر الحضارة الذي لم يجرؤ على تحريفه بشر.. اليمن وطن الطيبة والطيب والذكر الحسن, كأس الثقافة الممزوج بالعروبة من رأس الكأس وحتى ثمالته, وطن الألوان المخبوءة في طيف التنوع والتناقض والاختلاف, وطن المفارقات التي تبدأ منذ شروق الشمس ولا تنتهي لحظة غروبها, وطن الأحاسيس المرهفة والمشاعر النابتة على أرض الإيثار والتضحيات, وطن العروق والجذور التي جاوزت الحد وتخطت المدى ووصلت حتى اعتى مساحات العالم, وطن تحفه المغفرة وتحيطه سرابيل الستر، وطن الانساب المرتبطة بالأصالة والانتماء, وطن التباريح والآهات المنسكبة من أفواه الفقراء والشعراء والامراء الذين نكرتهم عروشهم ولقطتهم قصورهم بعد ان غاب عن أرض بلقيس هدهد السلام واختفى عرش الحكم العادل.. من مثلها واقفة على اعتاب الحاضر ثقل أهلها، من تغنوا باسمها ثم باتوا في اكناف العنف واحضان الوشاية.. من مثلها من؟!.
أحمد حمود الأثوري
الذنب ذنبك يا مغترب 2188