أخيراً، قرر اليمنيون الالتئام، وتنادوا للحوار.. وولّوا وجوههم شطر الفرصة الأخيرة.. بدأ كلٌّ باتخاذ موقعه في الطاولة، وانطلقت السفينة، فبسم الله مجراها ومرساها، تلاقت الجموع بعد صراع إراداتٍ أعمى، وحوار مَوتٍ، زج بالبلد في نفق مظلم كاد يفقدهم البصر والبصيرة، وكبّدهم خسائر مروعة فاقت قدرة الناس على الاحتمال، نحو ثلاثة أعوام..
وما كان لمثلهم- وقد أعياهم التعب- أن يتأخروا عن حوار حياة- كل هذا الوقت، إلا لأنه كان وراء الأكمة ما وراءها.. ودفع الله ما كان أعظم!
هي المبادرة إذن، أدركت الخطر مبكراً.. فصراعٌ كهذا كان بإمكانه أن يُفضي لمآلآت كارثية، مفتوحة على أسوأ الاحتمالات، في بلدٍ مفخخ، مخزونه الاستراتيجي من سلاح ونار، أوفر من الخبز والغذاء... وقطرات الماء!!.. مقارنة صادمة جعلت العالم يتوقع سيناريوهات مخيفة، خلاصتها: إذا وقعت الواقعة في هذا اليمن ليس لوقعتها كاذبة!!.. لهذا تحاماه الجميع، سرعان ما أحاطوه بالعناية الفائقة، وأدخلوه غرفة الإنعاش- تحت الوصاية المركزة!!
لا غرابة في اهتمام العالم.. فبلدٌ كهذا، وفي ظروفٍ كتلك، ليس من العقل أن يُترَك لنفسه - بل هو الجنون ذاته.. ثمة أيدٍ على الزناد، ورغبة انتقام، وأعصاب مشدودة يمكن أن تتفلت في غمضة عين، وأمامك منطقة تغلي برمتها، ثمة زلزال عربي متنقل يجر بعضه بعضا- لا قدرة لأحدٍ على كبحه، وثمة خارطة تتشكل من جديد، ومتغيرات يجب أن تمر في بلدانها، فيما وضع اليمن مختلف عن كل ما يجري، تحدياته أكثر تعقيداً، وموازين القوى أحدثت تعادلاً صعباً؛ تعرقلت إزاءه كل سيناريوهات الحل والحسم، وتوشك إطالة أمد الصراع أن تقضي على ما تبقى من يمنٍ راعف؛ لو تُرِك أبناؤه لقَدَرهم سيدفع الجميع فاتورة باهظة؛ لا قُدرة "للجوار" على احتوائها!!.. إذاً، لا مجال هنا للمغامرة بمصير بلد يتاخم أهم منطقة في العالم.. فأي حل حاسم لهذه المعادلة المعقدة يمكنه أن ينتشل اليمن بهدوء؟؟
كان على العالم أن يخترق الضجيج بقوة ليقدم حلا عاجلا ينقذ اليمنيين من بعضهم، ويتفادى الكارثة بأقل الخسائر.. ليس بمقدوره أن يأتي بعصا سحرية تنهي الورطة في لمح البصر.. لكنه بحاجة لحل يمني صميم من رحم التجارب.. فكان لابد من التفتيش في الذاكرة الوطنية بحثاً عن مخرج ملائم.. وبقراءة سريعة للتاريخ القريب التقط الرعاة خصوصية تاريخية فريدة، وميزة يمنية خالصة يمكنها وحدها أن تنتشل البلد من المأزق، وتمرر التغيير بأقل ثمن.. فكان ما أرادوا.. إذ تم الرهان على "الحكمة اليمانية" وإرث الحوار!.
سرعان ما تذكّر العالم، والجيران على وجه الخصوص، أن لليمن تاريخا حافلاً بالمصالحات، وسجلاً ثرياً من التفاوض، وجنوحاً معهوداً للسلم.. ففي كل حقبة تغيير؛ أياً كان ثمنه، ومع كل دوامة صراع؛ أياً كانت دمويته، اعتاد اليمنيون على التصالح وتقديم التنازلات.. فهم على عنادهم وجسارتهم، وشراستهم في المعارك، لا يركبون رؤوسهم حتى النهاية، بل سرعان ما يعودون من تناحرهم مكلومين، يجرون أذيال الحسرة وتأنيب الضمير.
هي الحكمة إذن ولو بعد حين، خصوصية يمانية حاسمة.. فالصراعات في العالم عادة ما تكتب نهاياتها برسم التناحر.. إلا في اليمن، تَكتب الصراعات نهايتها بالتحاور!!.. هنا فقط تنتصر الحكمة.. وهنا ثقافة حوار متوارثة.
سليمان دبوان
في طاولة الحوار 1347