أخيراً.. قتلوك يا صديقي.. بعد أن قتلوك مرات ومرات.. قتلوك حينما تركوك عاطشاً في صحاري الحياة، وفريسة للضيم ولعنة القهر ومرارة الحاجة، وقتلوك حينما تركوك وحيداً في شتاء الهم تقاسي الأمرين وراحوا يحيكون عنك الأباطيل بحثاً عن مبرر لجرم قتلك يا صديقي.. وقتلوك حينما أودعوك ظلماً وعدواناً عتمة سجون غيهم، وألقوا بك مرات ومرات في غياهب طغيانهم، إكراماً لإنسانيتك الحية فينا جميعاً.. قتلوك أخيراً حينما تجرأت أيادي غدرهم على إطلاق رصاصة الموت إلى قلبك البريء، ليعلنوا نهاية شعلة الإنسانية العامرة التي كانت تضيئ عتمة الدروب التي تحيط بكل من حولك يا صديقي.. قتلوك حينما ارتدوا عتمة الظلام "كخفافيش مرعوبة"، قيض لها أن تهجم خفية على عرين أسد لم يحترس لغدرها يوماً.. وقتلوك حينما لم يتجرأوا على الانتظار لحظة ليروا طهر دماءك المسفوكة قهراً وبغياً على أريكة مرقد لم تنته من تجهيزه بعد..
قتلوك حينما فروا دون أن يروا كم سفكوا بعدهم من دماء طاهرة ودموع نقية غسلت ما كان من قيم للطهر والبراءة في عالم لا يستحق أن تحيا له يا صديقي الراحل في دروب الخالدين، بل وقتلوك حينما لم يكتفوا بمرأى دماءك الطاهرة وإنما راحوا ليقتلوك مرات ومرات أخر، حينما راحوا ليحتفوا ببطولة خزيهم بقتلك يا صديقي، ويتخذوا من دماءك الزكية، منجز لبغيهم ورخص عمالتهم..
قتلوك حينما سعوا لتقديمك قرباناً لإرضاء أسيادهم، بعد أن ظنوا انهم قد أحسنوا صنعاً بإطفاء روحك المشعة بالحياة فينا يا صديقي، وذهبوا ليكيلوا لك تهم الأباطيل التي أراد الله أن يفضحهم من خلالها. ويعري بها زيفهم قتلة لإنسانيتك أيها الصديق الراحل في دروب الخالدين.. قتلوك حينما أتهموك زوراً وما لبث بقايا ضمائر بعضهم أن تدعهم يستمرون في احتفاءهم المخزي ببطولة قتلك يا صديقي، في تلك اللحظات التي كانت فيها روحك الطاهرة قد سبقت جسدك المسجى بدماء حقدهم وغدرهم إلى بارئها، فراحوا يبحثون عن "تهم إفك" في سعيهم للتخفيف من وطأة جرمهم وخزيهم وهول إحساسهم بكبر الجرم الذي ارتكبوه بحق روحك الطاهرة في تلك الليلة الملعونة بلعنة الغدر وسواد تلك اللحظات الحالكة بظلمة الهموم العاتية التي كانت تسكنك وأنت تواصل دروب البحث عن فرصة عيش كريم، لا أظنك ستجدها إلا حيث أنت الآن في دار خلدك يا صديقي الراحل عن دنيانا الرخيصة بعدك.
قتلوك حينما اتهموك زوراً وراحوا يبحثون عن مبرر لجرم ارتكبته أيديهم القاتلة، وحينما لم يجرأوا على مواجهتك بالحق والبينة وأنت مستكين آمن قرب عائلتك المتيتمة بعدك.. وقتلوك حينما أحال الله نشوتهم باغتيال روحك إلى نكسة مريرة تلوكها كل الألسن ومنابر الإعلام، بعد ساعات من انقشاع حقيقة قتلك العدواني وأنت في بيتك آمناً تلوك أغصان قات، أبت هي الأخرى إلا أن تكون شاهدة على بهتان زيفهم الموجه إليك، ودليلاً آخراً على براءة ما أنت فيه من حال، يعكس للجميع شرودك في هموم الحياة وثنايا دهاليزها المرة تارة، وهموم غيرك من المقهورين تارات وتارات أخر..
قتلوك يا صديقي حينما سمعوا طفلك "يحيى" ذا الخمسة الأعوام، وهو يصرخ مرعوباً من بحيرة دمك المسفوكة بغياً وعدواناً، وحينما فجعت (غدير) ذات الثالثة من العمر، وهي تقف مرعوبة بحضن أمها أمام مشهد جسدك وقد ذبلت فيه الحركة وغرق بين دماءك الزكية وهي تغطي مجلساً كنت فيه تضحكهم وتؤنس وحدتهم ولم يعد لهم اليوم بعدك من معين سوى الله وحده، وأم يتيمة أرملة ماتزال تسكنها أهوال فقدك وكوابيس مقتلك يا صديقي..
قتلوك حينما صرخت فيهم طفلتك الصغيرة، وهي تود أن تصفع وجوههم المقنعة بحقارة فعلتهم، ولا ادري كيف كان الحال بالنسبة لزوجة ترى قتلتك يوغلون في جرمهم وانتهاكهم لحرمة "مرقدك المقدس" ويعبثون بكل شيء، بحثاً عن "سراب لغز أجاج" عله يشفي غليك من وراءهم ويتخذون منه "صك غفران" على أمل مستحيل بأن يقيهم من الجزاء العادل لجرمهم، وباعتباره الهدف الكاذب الذي قتلوك لأجله، وعلى اعتقاد منهم بأنه سيكشف لهم ألغاز عجزهم الإنساني وفشل وطنيتهم المغتصبة..
قتلوك يا صديقي حينما رأت أمك صورة جسدك النحيل مسجاً بقطرات دمك، وهي متجمدة على صدرك الذي طالما حميت به كم ضعيف استنصر فيك، وأعنت به كم محتاج استعان فيك. قتلوك حينما استغلوا أمنك وبراءة روحك وهي تحتفي بكل أمن جوار أطفالك، وراحوا يخططون ليلاً لاغتيالك سراً وخفية في عتمة ذلك الليل اللعين، كلعنة قلب أراد أن يطفئ روحك يا صديقي.. وقتلوك وهم يغادرون منزلك يجرون ورائهم خيبة أملهم ويصارعون لعنات أقدراهم ومرارة إحساسهم بخديعة أسيادهم.
قتلوك حينما لم ينتظروك لحظة لتشرح لهم كم في قلبك من إنسانية هم في أمس الحاجة إليها وحينما لم يمهلوك ليعرفوا حقيقة من أنت في عالمهم المخزي، أو ليستشعروا كم تطاولت أيديهم على روحك التي ظنوا عبثاً أنهم بقتلها سيريحون قلوب أسيادهم المفعمة بالغدر والخيانة.
قتلوك حينما لم يرحموا أطفالك وهم يصرخون من حولك، رعباً لهول ما يسمعون من أصوات موت مفجعة تحيط بمرقدهم، وحينما لم يأبهوا بفجيعتهم وانهيار قواهم منذ لحظة إطفائهم لروحك ظلماً وبغياً وعدواناً أمام أعينهم البريئة.. وقتلونا معك يا صديقي حينما أبلغونا بفجيعة رحيلك عنا، في تلك اللحظات المشؤومة في سفر حياتنا.
قتلوك أخيراً يا صديقي.. ولكنهم لم يقتلوا نبض إنسانيتك في قلوبنا، فالويل لهم والخلود لإنسانيتك العامرة بالخير والبقاء لسمو أهداف المهنة الشريفة التي انتصرت بها لمئات المظلومين ممن جار عليهم قاتلوك وعز عليهم اليوم أن يجدوا وسيلة لرد الجميل إليك، أو لغة وحروف ومعانٍ علها تعينهم على قول ما يخفونه من حب أخوي صادق لك، شعور مرير بصدمة قهرهم على رحيلك، ولم يجدوا سوى الإقرار بالعجز وترديد كلمات الرحمة عليك.. ولكم حيرتنا يا صديقي وأشعرتنا بالعجز حتى عن قول ما يشفي صدورنا في رحيلك المفاجئ عنا، بل حبستنا في إحساس عجز قاتل يعبث ببقائنا بعدك ويجعلنا نشعر وكأننا جميعا شركاء في جريمة قتلك يا صديق عمر لا ينسى ورفيق درب كفاح مهني لا يمحى.. فلك الرحمة والمغفرة والخلود ولنا لعنات البقاء والإحساس بالعجز بعدك.
ماجد الداعري
في ذكرى أربعينية زميل المهنة وصديق العمر وجدي الشعبي 1661