هناك مقولة ترجع إلى السوفسطائين "معلمي الديمقراطية" مفادها "من يمتلك الكلام .. يمتلك السلطة" وعلى الرغم من قدم هذه المقولة حيث ترجع إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد فإن القرآن الكريم قد أيدها؛ وهو ما يتبين لنا بجلاء من قوله تعالى (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد لخصام" وهذا الذي امتلك ناصية القول وبلاغته نال الكثير من الإعجاب وهذا الإعجاب وذلك القول أهلاه ليكون بعد ذلك هو الملك وهو الرئيس وهو ولي الآمر (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) وهكذا تكون البداية "إعجاب" والنهاية استبداد وفي الوسط عاطفة أقل وصف نصفه بها السذاجة.
ولهذا لا نخطئ أبدا ولا نبالغ عندما نقول: "إن الدكتاتورية بذورها عاطفية" هذا ما أقرته الآية الكريمة (ومن الناس من يعجبك قوله) فالإعجاب هو أقرب إلى العاطفة وأبعد ما يكون من العقل، ولا يعجب بالقول إلا مُجمد العقل والفكر، ومن هنا ندرك حرص المستبدين في حالة وصولهم إلى سُدة الحكم وأماكن صنع القرار؛ على الإفساد في الأرض؛ بل والسرعة في عمل ذلك وهو ما يدل عليه استعمال الفعل "سعى" وليس ثمة شك أن العلم هو طريق العمار، ولما كان ذلك كذلك كانت سياسة المستبدين تسعى إلى كل ما من شأنه تجهيل الناس، وليس أسهل من الاستخفاف بالمنتسبين إلى الجهل، (فاستخف قومه فأطاعوه) ولا يُستخف إلا الخفيف وصناعة الإنسان الخفيف أو الساذج هو اتباع سياسة التجهيل وهذه السياسة هي أكبر الفساد، لهذا أول ما تمتد أيديهم وسياستهم الخبيثة إلى إفراغ المؤسسات التعليمية من مضامينها حتى لا تؤتي أكلها؛ لهذا كانت حملة نابليون على مصر فكرية فأول ما امتدت يدها إلى المناهج التعليمية لأنه حرب الأفكار العقلية أفتك في الأمة المسلمة من حرب الآلات الحربية.
وإذا ما صار فكر الإنسان مائعا مشوها صار صيدا سلها بيد الطواغيت من العرب والغرب، وعندما يكون الإنسان ساذجا يسهل قياده من ناحية عاطفته فهذه الأخيرة ترضى وتقنع بالقول (يرضونكم فأفواههم) فمن سلب أو غيب عقله تبقى عاطفته الضعيفة السذاجة؛ فتقابل هذه السذاجة "/قطرات من الكلام المنمق/" ببحور زاخرة من العواطف "بالروح بالدم نفديك يا ...." وما علموا أن تلك /البحور الزاخرة/ ستتحول إلى أمواج عاتية تهلك الحرث والنسل. (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل). ولولا ذلك التغييب للعقل والجمود للفكر ما كانت الثورات، لأن الجمود لو لم ينل من الفكر ما وصل المستبد إلى أماكن صنع القرار، ولما كنا بحاجة إلى الثورات.
والثورات اليوم أو شعوبها التي يريد المتآمرون إغراقها - وقد كادت -..؛ هي أحوج ما تكون إلى أن نمد لها بحبال الفكر حتى تتمسك بها جيدا فتنجوا، فجبهة الإغراق –مثلا- في مصر تستخف بعقول المصريين وتأبى إلا أن تعيش عقلية عصر فرعون مع أننا في القرن الواحد والعشرين إن هذه الجبهة في مصر -ومن لف لفها- تستعمل السياسة الفرعونية نفسها التي كانت تستخف بالشعوب، (فاستخف قومه فأطاعوه) فها هم الذين أسقطتهم الثورات قد صاروا متنبئيها فهم يتنبئون أن ما بعد الثورات أسوأ وأقبح؛ (جميل منهم أنهم اعترفوا بأن ما قبل الثورات كان سيئا وقبيحا) وقد شهد به الواقع بذلك؛ فلم لا يتركون الثورات وشأنها فهي من سيحكم على المستقبل / لكنهم يسعون من وراء ذلك العزف بعواطف الشعوب إلى ارتدادها عن الثورات؛ لهذا لا نترك أفكار الناس خواء حتى لا ينسيهم العزف على لحن الأمعاء ذلك السيل من الدماء للشهداء فينسون فجر الثورة بانشغالهم بغلاء أنبوبة الغاز. فالذي يكون فكره ممتلئا وعقله مستنيرا لا يمكن أن يؤتى من قبل عاطفته، وسوف يسكت أمعاءه بالحجار، ولفها بالحبال ولن تأكل من مطبخهم النتن؛ وحتى تستمر الثورة ويستمر النضال وإن كان حجم مؤامرتهم ومكرهم (لتزول منه الجبال).
د.حسن شمسان
الثورة .. بين سذاجة العاطفة وحكمة العقل (!) 1634