إن كل حدث يقع في علاقة جدلية ضمن سلسلة الأحداث، فهو نتيجة لما قبله، وسبب لما سيأتي بعده، فلا توجد هناك حادثة واقفة في الهواء لوحدها، كما لا توجد حجرة ليس لها مكان، في تشكيل الجبل العظيم، لأنها تحمل الحجرة التي فوقها في الحين الذي تقف فيه على الحجرة التي تحتها, ونحن حين نقف على أقدامنا، فهي تحمل جسدنا، ولكن الأرض التي تحتها تحمل هذه الأقدام بدورها، وهكذا تترابط علاقات الحياة، وهذا ينطبق على عالم الأفكار.. إن الأفكار السلبية التي لا تستند الي مقاصد الاسلام وخصائصه هي بمثابة الجراثيم الاجتماعية، فعلى سبيل المثال تاريخياً الخوارج لم يكن اسمهم خوارج, بل حازوا هذا اللقب تاريخياً، أما هم فكانوا يسمون أنفسهم مجاهدين، في حين اعتبر المسلمون أن عملهم هذا ليس جهاداً, بل خروجاً على مقاصد الإسلام وخصائصه بسبب تبني القوة المسلحة لفرض آرائهم بالقوة، وهو ما وقعت فيه بعض الحركات الإسلامية في التاريخ المعاصر.. لذا فالاتجاهات الإسلامية المعاصرة التي تتبنى العنف هي خوارج القرن العشرين بكل أسف، لأنها ضلت طريقها، والمشكلة اليوم ليست بتغيير الحكام، بل المشكلة هي بتغيير القواعد التحتية التي سمحت للمرض الفكري أن ينتشر قبل مجيئ الاستعمار وحكم العسكر بعد الاستعمار وإذا لم نحدث تغييراً فكرياً للشعوب، فسوف تعود أخطاء السابقين واللاحقين والآخرين وربما تحت (العباءة الإسلامية).. إن وصول القوى الجديدة إلى الحكم بدون مواكبة ذلك التغيير للمناهج التعليمية سوف يفرز ديكتاتورية جديدة لا تختلف في مصادرة الحريات عن دكتاتورية حكام المنطقة في شيء، ولا نظن أن الحكام السابقين كانوا أقل حرصاً على بناء مجتمع ديمقراطي حر، ولكن المشكلة أن الرغبات الحارة والأماني الصادقة شيء، والواقع وثقل القوانين الموضوعية في التغيير الاجتماعي شيء آخر.. لنتأمل الآية:{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ بعض إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (129) سورة الأعراف.. ولقد انتبه الإمام ابن تيمية قديماً إلى هذه النقطة, أي ان الجهاد هو ليس لنشر الإسلام بل لدفع الظلم, إلا أنه انتبه إلى نصف الحقيقة حينما فاتته أن يعلم ويفتي بحرية الفكر والدفاع عنه، و(بمبدأ الجهاد) نفسه.. لذا فإن ابن تيمية دفع حياته ثمناً لفتواه التي أفتى بها، فها هو قد ألقي به في السجن، حين اختلفت الآراء، ليموت شريداً حزيناً في سجن القلعة بسبب آرائه، ولو أفتى باحترام وحماية الرأي الآخر، مهما كان، لنعم بحريته في أيامه الأخيرة.. ولله في خلقه شؤون.
محمد سيف عبدالله العدينى
التعاون على حرية الفكر والدفاع عنه من مقاصد الإسلام 1369