صباح الأربعاء كانت مدونة ملاحظاتي اليومية تضم ثلاثة عناوين في الشأن السياسي المحلي, لأختار من بينها عنواناً لكتابة مقالي الأسبوعي في هذه الزاوية.. غير أنها بدت شاحبة، وبدا الشأن السياسي اليمني كله قاحلاً ومملاً مقارنة بجاذبية كرة القدم الأوروبية، حتى وإن كانت على شاكلة الهزيمة التاريخية التي تجرعها الفريق الكاتلوني الظاهرة «برشلونة» الذي وصل إلى نهاية مرحلة من أكثر مراحله أهمية إن لم تكن أهمها على الإطلاق..
لم تكن هزيمة تلك التي تلقاها برشلونة أمام الباير ميونيخ الألماني ليلة أمس الأول الثلاثاء، بل نهاية لأحد أهم جولات التألق والتحليق في الفضاء التي شهدتها كرة القدم العالمية في الخمس السنوات الماضية تحت عنوان برشلونة وإبهاراته.. حتى لو حدث وفاجأ العالم وعمل المستحيل ليلة الأربعاء القادم وتجاوز هزيمة الذهاب الرباعية، فلن يكون بمقدوره استعادة ذلك الرتم المتشابك لكرة القدم الجديدة التي ابتكرها وأصبحت طابعاً خاصاً به..
سيحتاج الأمر إلى بعض الوقت, وقد يتطلب تغييرات جوهرية في فريق عظيم يحسب تاريخياً على الإبداع في أداءاته، وتضفي عليه مسحة اليسار مع تبنيه خلال مسيرته الطويلة لمفهوم نبذ الربح كفلسفة من خلال عدم الإعلان في قميصه لشركات تجارية والاكتفاء في السنوات الأخيرة بالترويج لمنظمة الطفولة اليونيسف كعنوان لقميصه.
إلى جانب اعتماده على تنمية مهارات ناشئيه والاعتماد عليهم بصورة أساسية بدلاً من الاعتماد على البورصة المالية لشراء النجوم التي يتبناها فريق مملكة قشتالة القديمة التي ارتكبت أحد أسوأ عمليات الإبادة في التاريخ، والقوة لتغيير المعتقدات ضد العرب والمسلمين ريال مدريد الذي اقترن اسمه بالجنرال فرانكو ملك إسبانيا الذي أجبر الطائرة التي تقل دي ستيفانو في ستينيات القرن الماضي على تغيير وجهتها من الأرجنتين برشلونة إلى الأرجنتين مدريد وهي محلقة في السماء.. من غير الممكن أن تتغير فلسفة برشلونة فريق سلفادور دالي المفضل، حتى موجة غزو المال الخليجي للأندية الأوروبية، مال بلا صاحب، ربما تبهت القيمة البارشاوية مع إصرار القطريين، غير أن الجانب الترويجي لدولة تسعى لتسويق نفسها كمنظم جيد لكأس العالم نسخة 2022 لا يعبر عن تغير جذري في طابع البارشاوية التاريخي.
حلق برشلونة في العالي خلال الخمس السنوات الماضية، حتى قيل بما يشبه الإجماع إن هذا الفريق غيّر مفهوم كرة القدم..
لم تعد المسألة مجرد تكتيكات وبنية بدنية ومؤسسات احترافية جامدة, بل أصبحت روحاً جديدة تمكن فريقاً أغلبه من قصار القامة والبنيات البدنية الصغيرة من عزف مقطوعات فنية نادرة واستثنائية والفوز بأكثر من 15 بطولة؛ منها بطولتا تشامبوزليج «دوري أبطال أوروبا» وإعلاء المتعة في اللعبة الأكثر الشعبية في العالم على مبدأ الفوز بأي ثمن وتكتيكاته.. كانت سنوات من الألق بدت معها مباريات برشلونة وكأن حاسة سادسة تتحكم بتبادلات الكرة بين شبكة من الأشباح ترهق أقوى فرق العالم..
هذه الوصفة التي تمزج بين الخفة والاستحواذ والتمريرات الشبكية والمرور بقوة الماء المنزلق وليس بصلف الأجساد هي التي مكنت برشلونة من التحليق قبل أن يصل إلى قمة تَلْه ويبدأ العد التنازلي, وهي من مكنت منتخب إسبانيا من حصد البطولات الكبرى بفريق عماده الأساسي من البارشا، وإذلال الألمان في أكثر من مناسبة وتجاوزهم مع غيرهم لحصد البطولات الكبرى، كأس أمم أوروبا مرتين، والتتويج بكأس العالم لآنيستا وتشافي, فيما كان العمالقة طوال القامة يتأملون بحيرة المعجزة التي سرت من برشلونة الفريق إلى إسبانيا المنتخب.
الآن ربما حان موعد الألمان.. باير ميونيخ كان في القمة خلال الثلاث السنوات الماضية، وصل إلى نهائي أبطال أوروبا مرتين من أصل ثلاث وخسر أمام مورينيو الإنتر، وأمام تشيلسي العام الماضي الذي انتصر بالدفاع التكتيكي واللعب المدمر لكرة القدم، وحينها كان العنوانان متناقضين بين برلين ولندن؛ في الأولى كان العنوان: "تشيلسي ينتصر على كرة القدم".. وفي لندن قالوا: الإنجليز ينتصرون على الألمان، في تأكيد لغياب كلمة النصر في سجلهم أمام «أسياد أوروبا».
بدوره كانت مباراة برشلونة العام الماضي أمام تشلسي في نصف النهائي إنذاراً يؤشر إلى ضرورة تغيير استراتيجية اللعب البارشاوي، فبعد خسارتهم في الذهاب بهدف عجز ميسي وانيستا عن التعويض في الإياب وعلى ملعبهم أمام اللعب الدفاعي الذي يقتل كرة القدم، فكان لابد من التفكير بإعادة هيكلة برشلونة ليضيف التسديد من بعيد والكرات الطويلة والاندفاع الهجومي السريع والاستفادة من الركنيات إلى جانب أسلــوب التيكي تاكا، غير أنه لم يفـعل وها هو يدفع الثمن الآن.
ليس بالتيكي تاكا وحده كان البارشا يفوز، فقد كانت لديهم ترسانة صلبة وراء ميسي وانيستا وتشافي مثل يايا توريه الذي رحل إلى مانشستر سيتي وكذلك سيدو كايتا، وأبيدال، وقلب الأسد الكبير فيول وماكسويل وبيكيه ( قبل أن يُصادق المغنية الكولومبية الشبقة شاكيرا )، ولم تخلُ الوصفة من توقيع الغزال تيري هنري الذي وضع لمسته على البارشا متأخراً بعد أن توهج ولمع في الآرسنال.
رونالدينيو كان من مؤسسي المدرسة الجديدة في البارشا وجلب لهم رفقة إيتو النسخة الثانية من دوري الأبطال في 2006، وإن لم تسعفه قدماه لمواكبة البارشا في التحليق على مسافات بعيدة في الفضاء مع المدرب جوارديولا في موسم 2009 / 2010.
في الزمن القديم اخترع اليونانيون لعبتي الفلسفة والألعاب الأولمبية في وقت واحد؛ الأولى لرياضة العقل والثانية لرياضة البدن, وكلاهما دلالة على ازدهار الأمة اليونانية وحضارتها المتقدمة آنذاك, وكلاهما يتكاملان مع ضرورة وجود الامتلاء والفراغ، والجِد واللعب في آن واحد في الحياة وإلا أصبحت غير ممكنة وغير قابلة لأن تعاش.
وبدورنا سنتطلع الآن للفريق البافاري بايرن ميونخ لعله يتجاوز النحس آريين روبين الذي خسر نهائيات بطولة أمم أوروبا مرتين مع الإنتر وباير ميونيخ وخسر نهائي كأس العالم مع هولندا أمام إسبانيا.. وشخصياً أفضل فوز باير ميونيخ بدوري الأبطال على أن اضطر لمشاهدة تبجحات البرتغاليين مورينيو وكريستيانو رونالدو وكنتراو وبيبي في ريال مدريد، وهؤلاء قوم لا يبتسمون مثل من سبقهم من البرتغاليين كلويس فيجو الذين يمثلون سلالة الغزاة الأوائل من البرتغاليين: قساة ولا يبتسمون ولا يضحكون وتصرفاتهم سيئة ومتبجحون ويتبنون القوة النيتشوية في وجهها السلبي.. اللهم أجرنا من فوزهم وتبجحاتهم!!.
مصطفى راجح
في رثاء برشلونة 1592