بُنيت سياسة العالم المعاصر على أساس المصلحة وهذا الأساس غير متين, فهو يتجاوز الإنسانية وقبلها الدين، ولما كانت الإنسانية كعامل مشترك من شأنها أن تجعل السياسة تنظر للإنسان بعين الكياسة وليس بعين المصالح والنفاسة؛ لكن لما كان أساس السياسة هو المصلحة فقد تجاوز كل القيم حتى الإنسانية وذلك أدى إلى قيام الثورات وإن كان قيامها قد جاء متأخراً جداً مقارنة بالأوضاع السيئة التي وصلت إليها الشعوب العربية خصوصا والإسلامية عموما، فهذه الشعوب أو الأوطان- تحت سياسة أساسها المصالح- صارت أشبه بالظل الذي يتبع صاحب المصلحة.
وقد تقاسم العالمَ حوتين؛ الأول تمثل في منظومة الرأسمالية، والثاني في المنظومة الاشتراكية، الأولى تقودها الولايات المتحدة الأمريكية "أمريكا" والثانية يقودها الاتحاد السوفيتي ممثلة بـ"السوفيت"، وكان كل من العالمين الإسلامي والعربي يتبع أحد هاتين المنظومتين الرأسمالية والاشتراكية، وهذه التبعية حتمت أن كل بلد عربي أو إسلامي لا تقوم سياسته أو الطريقة التي يدير بها بلده على استراتيجية وطنية إنما كانت سياسة وإدارة ظل تتبع سياسة وإدارة المنظومة التابع لها..
بهذا صارت أوطاننا عبر زعامات تولي وجهها للغرب الرأسمالي تارة وللشرق الاشتراكي تارة أخرى فظلت أوطان وزعامات وسياسات وإدارات بين مغرب ومشرق ليست أشبه بالظل بل صارت بالفعل أوطان ظل، ومعلوم أن الظل ليس له حقيقة, إنما هو شيء زائف ومتقلب ومتلون وزائل بزوال أسبابه.. لهذا نلاحظ على أن الأوضاع لا تستقر في الوطن الإسلامي والعربي ولا تظل على حال, بل يكون حال الظل من حال صاحب الظل يتسع ويضيق يبسط ظله ببسط صاحبه نفوذه.
والسؤال: كيف أثر هذا الوضع على اليمن؟.. اليمن كان شأنه شأن بقية دول المنطقة لم يشذ عن لعبة السياسة المبنية على المصلحة، فكان اليمن سابقاً قبل الوحدة يعيش على طرفي نقيض (الرأسمالية/ الاشتراكية) ولعلي أستعين بمثال واحد لأبين لكم حقيقة الشعوب التي هي عبارة عن ظل لآخر؛ فشعب الجنوب الذي كان يمثل وطن الظل للسوفيت عندما تهاوت المنظومة الاشتراكية العالمية ممثلة بروسيا لم يكن أمامه إلا أن يزول أو يتهاوى, لأنه كان عبارة عن ظل فإذا زال صاحب الظل زال الظل؛ بمعنى أن النظام في الجنوب لم يبن إدارة شؤونه برؤية استراتيجية وطنية تضمن له البقاء، لكنه بنى نفسه على أنه إقليم يتبع روسيا الاتحادية وهذه الأخيرة كانت تمكنه من كل شيء فلما ذهب ذهب معه كل شيء..
بمعنى أن الحزب كان مضطراً لأن يرتمي في أحضان آخر، حتى إن كان هذا الآخر يتناقض معه في الرؤية والاستراتيجية، فلم يجد إلا ظلاً آخر ينتمي إليه وهو النظام في الشمال أو وطن ظل آخر، وهذا الآخر لم يكن شاذاً عن النظام الدولي، حيث كان ظلاً للرأسمالية، وهكذا التقت الاشتراكية والرأسمالية تحت ظروف ملزمة لم يكن لأحد أن يملك خيار آخر، فكانت الوحدة بين نظامين ظلين متناقضين ولهذا السبب فشلت ابتداءً؛ لأنها لم تبن على استراتيجية وطنية شأنها شأن الوطنيين الجنوبي والشمالي..
والطريف هنا أن علي البيض لم يتنازل عن وطن كما روج له وإنما ارتمى مجبراً في أحضان نظام ظل رأسمالي، وعلي الآخر لم يكن هو باني الوحدة وصاحب اختراعها, فالوحدة كذلك فرضتها تلك المرحلة الحرجة، وإلا فالمنظومة الرأسمالية هي ضد أي وحدة للدول الإسلامية أو العربية، لكن لما كان ضامنا النظام في الشمال، وأن البلدين سوف يصيران بلداً واحداً خلاصته ظل سمح بالوحدة لتقوم, فهي وحدة فرضها الظل وليس استراتيجية وطنية، لهذا سريعاً ما تداعت الوحدة؛ لأنها كانت بين نظامين ظلين ومتضادين، ولأن الرأسمالية أرادت أن تقضي على الجنوب بجيشه لأنه كان جيشاً قوياً بني على أساس نظام وليس مثل الجيش في الشمال الذي بني على أساس عائلي.. لهذا كانت الرأسمالية تملي على ظلها بتمزيق ذلك الجيش لأنه قد ينقلب في لحظة ما فكان لها ما كان فعمل النظام ليس على تدمير الجيش بل قضى على كل ما من شأنه أن تضل بصيص من حياة كريمة للجنوبيين؛ وكان آخرها بيع الميناء للإمارات ليزيد جوع اليمنيين والجنوبيين بشكل خاص.. وها هي الوحدة التي فرضتها المصالح ولم تقمها أيادٍ بيضاء واستراتيجيات ستظل ورقة لعب بيد المصالح الخارجية تستخدمها في أي وقت تحب.
إن ما حدث ويحدث في الجنوب من مشاكل كانت نتيجة غياب الرؤيا الوطنية، والاستراتيجيات التي هي بمثابة الجبال وأوتادها التي تعمل على بقاء وثبات الوطن مهما اهتز النظام العالمي، لكن عندما تكون الأوطان عبارة عن ظلال للنظام العالمي فهي تتحرك بتحركه وتبسط نفوذها ببسط نفوذه وتزول بزواله, لأنها ظل.
د.حسن شمسان
البيض لم يتنازل.. وصالح لم يبنِ! 1395