"تمكنت مروحيتان تابعتان للجيش من إجلاء 47 شخصاً يوم الاثنين الفائت حاصرتهم السيول المتدفقة إلى سد مأرب في المناطق الواقعة بوادي أذنه بمحافظة مأرب، إذ كانت وزارة الدفاع قد أرسلت مروحيتين إلى منطقة سد مأرب مع فريق متخصص، وتمكنت من إنقاذ جميع الأشخاص المحاصرين مع 200 رأس من الماشية".
بكل تأكيد الخبر يفرح، فوزارة الدفاع ترسل طائرتين عموديتين لإنقاذ مواطنين لا لترويعهم وقتلهم، ألا يعني لكم هذا النبأ بشيء؟ فإذا كانت حياة إنسان ليست مهمة وطنية جديرة باستنفار الجيش والأمن؛ فعن أية وظيفة وواجب يستوجب التباهي والشرف؟.
أما الخبر غير السار فيتمثل بأربعة اعتداءات همجية بربرية مهلكة لملايين اليمنيين، وفي ظرفية قياسية لا تتعدى ساعات اليوم الواحد، نعم تخريب طال خطوط نقل النفط والكهرباء ودونما قدرة على إنقاذ حياة ملايين من الأطفال والنساء والكهلة والمرضى ممن يموتون كمداً وقهراً وعبثاً وحسرة, فكلما أحس هؤلاء بتفاؤل يسري ويدب في عروقهم الضامرة الملتاعة لعودة الحياة إلى كيان دولة مجهد ومبعثر أوصاله؛ عاد الإحباط والتشاؤم مستبداً قاتلاً لروحهم المستبشرة بإمكانية النجاة من هلاك قوم البغي والعدوان والقتل الجماعي.
قبل بضعة أعوام كنت قد تناولت واقعة إسعاف امرأة سقطرية عانت من عسر مخاض الولادة، وقتها كان نائب رئيس الدولة المتوحدة لتوها السيد/ علي سالم البيض قد أمر وزير الدفاع بسرعة توجه طائرة عمودية إلى جزيرة سقطرى، مهمة وطنية وإنسانية صميمها حفظ حياة مواطنة يمنية مهددة بالموت، الوزارة بكل تأكيد لم تتردد إذ وجهت قائد القوات الجوية كعادتها في التعامل المنضبط والصارم إزاء أوامر قيادات الدولة أو حيال إغاثة منكوب..
لكن طائرة العائلة والقبيلة في الشمال ليست كطائرة الوزارة والدولة في الجنوب، فلم تقلع الطائرة من مربضها بسهولة ولمجرد بلاغ مكتوب مرسل للضابط المناوب، فبعيد مماطلة وتسويف وربما, أيضاً, السخرية من استخدام طائرة لإسعاف "مكلف" تولد لا لنقل قائد همام أو لمهمة استعراض، أقلعت وتوجهت إلى الجزيرة النائية, ولكن بعد ذهاب البيض وموكبه إلى وزارة الدفاع ومرابطته فيها واستخدامه كامل نفوذه وسلطانه؛ إذ لم أقل تشنيعه وتهديده لكل متقاعس ورافض تنفيذ أمره.
وإذا كانت وزارة الدفاع قد نجحت في إنقاذ حياة أناس تقطعت بهم السبل حتى كاد الموت غرقاً أقرب لهم من الحياة؛ فإن فعلها الجميل والنبيل والوطني ينبغي أن يتساوق مع أفعال جريئة وشجاعة ووطنية حيال عصابات مسلحة, عابثة, قاتلة, مدمرة, منهكة لوطن ولمجتمعه وأمنه واستقراره واقتصاده ومكتسباته ومقدراته.
الثلاثاء الفائت كان الرئيس هادي قد وجه وزارة الخدمة المدنية باعتماد نظام البصمة والصورة الإلكترونيتين في وزارتي الدفاع والداخلية على أن يشرع بالتنفيذ مطلع الأسبوع القادم، قبل ذلك كانت وزارة الدفاع قد خضعت لجملة من الإجراءات الإدارية والفنية التي من شأنها إعادة هيكلة القوة وتحديد تموضعها وانتشارها وقوامها ومهامها، وكل هذه الأشياء مدعاة للتفاؤل، لكنه تفاؤل وقتي سرعان ما تبدده الأعمال العدوانية الثأرية المنتقمة من كل بارقة أمل.
فكما هو معلوم أن الرئيس السابق طالما ظل معيقاً ووائداً لفكرة إخضاع هاتين المؤسستين لنظام البصمة الإلكترونية المعمول به من وزارة الخدمة منذ سنوات، فباستثناء الدفاع والأمن يكاد النظام الحديث سارياً على كافة مؤسسات وهيئات ووزارات ومصالح الدولة..
ومع أهمية مثل هذه الخطوة بالنسبة لوزارتين غارقتين بالفساد والمحسوبية والانتهاك الصارخ والفظ للوظيفة والمال والقوة والانتماء والكرامة والعدالة وسواها من مفردات ومفاهيم نظرية حداثية لا مكان لها في واقع الممارسة العملية طوال حقبة الرئيس السابق؛ فإنه لا قيمة لمثل هذه الأفعال إذا لم تقترن بأفعال إيجابية وملموسة لدى عامة الناس..
فما قيمة الكلام عن الهيكلة والحوار؟ وما نفع الحديث عن مئات المليارات المهدرة عبثاً لمن همه الأول إنارة منزله وتأمين طريقه؟.. فالكلام عن 100ألف جندي وهمي في كشوفات الحرس والقوات الخاصة سابقاً, أو عن وجود 70 ألف قوة بشرية فائضة من الضباط والصف والجنود بوزارة الداخلية والأجهزة التابعة لها؛ بلا شك أمر يدعو للثقة والتفاؤل.. لكن المواطن العادي يستلزمه خدمات أساسية وضرورية كالكهرباء والماء والدواء وأسطوانة الغاز والأمان والمدرسة والرغيف وغيرها من ضروريات الحياة التي للأسف يتم إغفالها.
113متهماً بالاعتداء على خطوط نقل الكهرباء- الإحصائية هنا قبل الاعتداءين الأخيرين- تم القبض على 3 فقط, فيما 5 سلموا أنفسهم طوعاً لأجهزة أمن مأرب, أما القائمة الأكبر115 متهماً, فتكتفي وزارة الداخلية بأنها وضعتها ضمن القائمة السوداء, 71 متهماً صدرت بحقهم أوامر قهرية من النائب العام ومع أهمية الأمر مازالوا أحراراً طلقاء.
أعجب العجاب أن يكون لديك 490برجاً ويفصل بين برج وآخر مسافة 300- 350 متراً ومع وجود جيش جرار قوامه يزيد عن عشرة معسكرات تضم آلاف الضباط والجنود الذين هم في الأصل قوة فائضة شاغرة وبلا مهمة قتالية أو تدريبية في الوقت الحاضر.. لنفترض بعجز تام تعاني منه قوات الأمن وجنودها؛ فهل يعقل أن هذه الألوية الضاربة المنتشرة على طول وعرض مأرب وصنعاء والجوف غير قادرة على حماية وتأمين المنشآت الاقتصادية والخدمية الحيوية لنقل الغاز والنفط والكهرباء؟.
أصدقكم أنني أشعر مثلكم بالكآبة والوجع، وبالطبع تزيد كآبتي حين تعلن وزراء الكهرباء أسماء المقاولين المتناوبين على العبث والتنكيل بما بقي فينا من شعور وإحساس بالآدمية، فما هو مؤكد أن مهمة وزارة الكهرباء هي إصلاح العطب وإيصال التيار, لا إعلان أسماء الجناة الذي هو مهمة خالصة بوزارة الداخلية وأجهزتها المنتشرة في كافة أرجاء البلاد.
ختاماً, فبقدر ما أحترم وأقدر أي جهد من شأنه أن يستعيد ثقة المواطن بالدولة وجيشها وأمنها ومؤسساتها وسلطاتها؛ بذات القدر أمقت وأزدري كل فعل لا يقدر واجبه ومسئوليته، بحق أشعر بالمهانة والاحتقار، فحين يعجز الجيش والأمن عن حماية وتأمين منشآت حيوية كالكهرباء والنفط والغاز؛ فإنني أعتبر المسالة عاراً ما بعده عار!..
وعندما تفشل كل هذه الألوية العسكرية وتلكم قوات النجدة والأمن المركزي والعام عن ضبط 71متهماً بالتخريب والحرابة ينتابني إحساس بالقهر والذل!, كيف لا أشعر بالإذلال والمهانة وهؤلاء المخربون طلقاء أحرار دون رؤية مخرب واحد يقف خلف قضبان العدالة أو بين جدران السجن؟.. نعم, فكما قيل قديماً بأن "مكسر غلب ألف مدار"، نحن كذلك حين تصير البلطجة بطولة والتخريب مهنة وارتزاقاً وقطع الكهرباء والنفط والطريق مآثر وأمجاداً تتصدر عناوين الصحف والقنوات، فيما طائرة البيض أو الدفاع أفعال هامشية ونادرة الحدوث في وطن يقطنه مواطن فقد ذاكرته وحدسه وحتى حلمه وأمله وثقته بنفسه.. نعم, ما أبشع القتل حين يطال الذاكرة والوجدان!, وما أروع ما قامت به طائرات الجيش!, وما أقبح إخفاق ألوية الجيش والأمن!.
محمد علي محسن
البيض وطائرة الجيش!! 1914