طالما والمتحاورون ما زالوا يؤدون دورهم في فرق العمل المنبثقة عن مؤتمر الحوار الوطني الشامل ولشدة حبي للحوار واحترامي للمتحاورين أحببت أن أذكرهم بمجموعة من آداب الحوار وأخلاقياته التي تساعدهم على النجاح في حوارهم والرقي بمؤتمرهم نحو السمو والرفعة والتوصل إلى حلول عاجلة في جميع القضايا المطروحة أمامهم وبين أيديهم وفي جدول أعمالهم.. فالحوار خلق كريم وظاهرة أزلية وجدت مع وجود الإنسانية ومرتبطة بالعقل ووحيه وإلهامه ولما كان الإنسان حريصاً كل الحرص على توضيح أهدافه وتبيين أفكاره والدفاع عنها, كان عليه لزاما أن يعرضها على الآخرين وفي حالة معارضته من قبلهم أو مخالفته الرأي استجمع أفكاره وقدمها بشكل حوار يبعث للعقول معلومات جديدة بعد إشغال الذهن وإعمال الفكر.. ولا بد للحوار أن يبقى عذبا بعيداً عن المهاترة والتشكيك والصراع الحزبي.
وهنا يلزمنا التحلي بمجموعة من الآداب الفاضلة والأخلاق النبيلة ومن أهمها:(عفة اللسان والقلم) وذلك بأن لا يتجاوز المتحاور في مدح ولا يسرف في ذم, لأن المبالغة في الذم طريق الشر والرذيلة, كما أن الإسراف في المدح والثناء ملق ومهانة, فقد قيل لرسول الله صلى الله وعليه وسلم يا رسول الله أدعو على المشركين.. قال:( إني لم ابعث لعاناً وإنما بعثت رحمة), كما قال(سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).. وتراثنا الإسلامي مليء بالأدب الرائع بين المتحاورين في أدق القضايا وأحكام الإسلام ويدرك ذلك المتتبع للتاريخ الإسلامي ومن أبرز ذلك الحوار الجميل الذي دار بين الخليفة الثاني (عمر بن الخطاب) رضي الله وعنه وعدد من الصحابة حول توزيع الأراضي بين المقاتلين, فقد كان الحوار منصباً حول تفسير عدد من آيات القران الكريم ومع ذلك لم يتحمس عمر في كلمته ولم يسيء إلى أحد في عبارة وإنما تبادل مع الآخرين الحجة بالحجة والرأي بالرأي وفي نهاية المطاف اقتنع الجميع برأيه وقالوا عن طيب نفس (نعم ما قلت وما رأيت).. كما أن من النماذج الحوارية الرائعة حوار مكتوب تم تبادله بين عالمين جليلين, هما إمام دار الهجرة ( مالك بن انس) رحمه الله وإمام مصر وعالمها الكبير (الليث ابن سعد) رحمه الله.. يقول الإمام مالك رحمه الله: واعلم رحمك الله- بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مختلفة لما عليه الناس عندنا وبلدنا الذي نحن فيه وأنت في أمانتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك, حقيق بأن تخاف على نفسك.. فانظر رحمك الله فيما كتبتُ إليك, واعلم أني أرجو أن لا يكون قد دعاني إلى ما كتبتُ به إليك إلا النصيحة لله وحده والنظر لك, فأنزل كتابي منزلته فانك تعلم ( أني لم آلك نصحاً).. ويجيب الإمام الليث عن هذه الألفاظ والمعاني الطيبة بمثلها: قائلا: قد أصبتَ بالذي كتبت به من ذلك, ووقع مني بالموقع الذي تحب.. ثم يقول: وقد بلغنا عنكم شيئاً من الفتيا, وقد كنتُ كتبتُ إليك في بعضها فلم تجبني, فتخوفت أن تكون قد استثقلت ذلك فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكرت.. ثم يبين الإمام الليث انه ثابت على رأيه, مخالفٌ في ذلك رأي الإمام مالك في العديد من المسائل والآراء دون مجاملة أو مداراة على حساب الحق.. ثم يختم كتابه بقوله: وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة, وان نأت الديار فهذه منزلتك عندي ورأيك فيه فاستيقنه, ولا تترك الكتابة إليّ بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك وحاجة إن كانت لك أو لأحد يوصل بك فاني أُسَرُّ بذلك.
فهذه نماذج حوارية رائعة تدعو الناس إلى الرجوع إلى آداب الإسلام وأخلاقه في الحوار بدلاً من تنصيب بعض الناس أنفسهم أوصياء على غيرهم وعلى العقول والتفكير, فيتهمون هذا ويسيئون إلى ذاك ويشيعون الخوف من المشاركة في الحوار وإبداء الرأي, وهذا السلوك يؤثر سلباً على إنجاح الحوار الوطني ويفتح أبواب الصراع والشغب والمشاجرة.
أحمد محمد نعمان
لِلْحِوَارِ آدَابٌ وَأخْلَاقٌ 1-1 1216