الواقع أننا ورغم كل مآسي الماضي وأخطائه وصراعاته المنهكة والمدمرة لمجتمع الجنوب ولدولته وثورته واقتصاده وقوته واستقراره؛ مازلنا كما أسلافنا الذين نعتب عليهم بكونهم أوصلوا أهل الجنوب إلى هذه الحالة المزرية والمهينة والمذلة.. "كأنك يا بوزيد ما غزيت"، نحن كذلك حين لم نتعلم أو نستفد أو نتعظ من جل المحن والكوارث التي أودت بنا جميعاً إلى هذه الوضعية الحرجة والبائسة.
قبل الاستقلال وبعده لم نعر صوت العقل والحكمة أية أهمية؛ فكانت النتيجة كارثة تعقب الكارثة، والمأساة تلحقها مأساة, فثلاثة عقود مضت من عمر الثورة والاستقلال والجنوب ثائر، غاضب، هالك, قرباناً للقيادات المجنونة، المهووسة، الجامحة، المفتونة بالذات والشعارات النزقة الثورية الأحادية، فلم يأت العام 89م إلا والدولة منهكة مثقلة خائرة ممزقة.
ومع حالة الوهن والتمزق والتيه التي عاشها الجنوبيون كان هنالك ثمة صوت متعقل ومدرك بعاقبة توحد ارتجالي متسرع، ولكن هذا الصوت لم يسمعه أحد في ظل زحام كثيف غير مكترث بسوى إزالة براميل الشريجة وسناح ومكيراس، فما من عقل ومنطق يمكن استساغته وقبوله في خضم طغيان وغلبة الجنون ،فكما قيل بأن "كلام الحكيم حماقة في نظر المجنون".
أتذكر الآن أنني سمعت صوتاً خافتاً من هذا القبيل، أظن صاحبه سعيد صالح وثلة رفاق آخرين في الحزب والجبهة الوطنية, ناهيك عن شخصيات من الزمرة وجبهة التحرير، قلة قليلة من الرجال العقلاء الذين كانوا خير تجسيد لقول نبينا الكريم محمد بن عبدالله " الجنة مائة درجة، تسع وتسعون منها لأهل العقل وواحدة لسائر الناس", لكنهم قلة وصوتهم محدود وغير مسموع أو مؤثر البتة، فلا صوت يعلو على صوت الحماقة والعاطفة والعجلة..
فمن بمقدوره وقف العجول الأحمق؟.. فمع يقيننا بقولة العرب " أول الغضب جنون وآخره ندم "؛ لم يلتفت احد منا لهذه الأصوات الضئيلة المحذرة من نهاية كارثية، فمعظم المتشددين الآن للعودة إلى نقطة الانطلاقة المجنونة كانوا قد ركبوا سفينة التوحد ودونما التفاتة لتلكم الأصوات العقلانية المحذرة من مغبة توحد سياسي تم سلقه على عجلة، فسواء كانت هذه الأصوات في الجنوب أو في الشمال إلا أنها بقت ضئيلة وخافتة وغير مستساغة مطلقاً مقارنة بزخم كثيف لا مكان فيه لمقولة " العجول مخطئ ولو ملك، والمتأني مُصيب وإن هلك".
رئيس مأزوم وفار من استحقاق سياسي يمكنه قلب معادلة الحكم شمالاً إزاء أمين عام حزب شمولي محاط بقيادات من الرعيل الثالث والرابع الذين أتت بهم الصدفة إلى مواقع التنظيم عقب كارثة يناير 86م ودونما خبرة أو تجربة أو فكرة كفيلة لهم بقيادة الدولة والنظام وفي مرحلة حرجة وخطرة كتلك التي أعقبت كارثة وطنية ومجتمعية وتزامنت, أيضاً, مع محنة عولمية عصفت بمنظومة كاملة من الدول الصديقة ومن العلاقات والتحالفات السائدة خلال نصف قرن.
المهم ذهب الجنوب إلى التوحد طوعاً وتحت تخدير نصف قرن من التعبئة الثورية والوجدانية والذهنية والنضالية والوطنية والقومية والأممية التي تشبعت بها جماهير الجنوب، ضف لهذه التنشئة الوطنية والأممية؛ كان لطغيان ثقة العاطفة على ثقة العقل، ولغة التاريخ والجغرافيا على منطق المصالح والمنافع، أثره السلبي على مجمل العملية السياسية, ناهيك عن عوامل أخرى داخلية وخارجية، شخصية ونفسية، مجتمعية ونخبوية، فجميع هذه العوامل شكلت عامل ضغط مؤثر في وحدة اندماجية فورية لم تضع باعتبارها أية فروقات مجتمعية وثقافية واقتصادية وفكرية وسلوكية ونفعية وقيمية وسواها من الاختلافات المجتمعية التي أطلت بوجهها القبيح على الجنوبيين خاصة واليمنيين عامة.
ومع هذا الخطأ الفادح الذي تجلى واضحاً للعيان بعد اشهر فقط على إعلان الدولة الجديدة؛ كانت أزمة الخليج وتداعياتها الكارثية على الدولة المسلوقة والناشئة وعلى مجتمعها قد كشفت وعرت حقيقة الموقف المخجل المداهن المنحاز لاحتلال دولة الكويت، فعلى الرغم من جنوحها لتوحد غير مدروس عواقبه؛ تعاملت مع غزو العراق للكويت بذات الحماقة والعاطفة والجهالة التي قادت بها دولة الجنوب إلى توحد مرتجل متسرع سرعان ما بدت سوءته قاتلة وممزقة لنسيج طالما ظل واحداً وعصياً على الدولتين الشطريتين وعلى أنظمتهما وحدودهما وأيديولوجيتهما.
كان هنالك صوت عقلاني مدرك لتبعات الموقف المخزي على الدولة الجديدة، وعلى ملايينها في دول الخليج وعلى اقتصادها ووحدتها، ومع كل ذلك ذهبت الجماهير العرمة خلف الصوت النزق المجنون الأحمق غير آبهة بالنتائج الكارثية العائدة عليها جراء تصفيقها وهتافها واحتشادها وراء الشعارات والقيادات المتطرفة الحمقى التي ما فتأت تجرعها ويلاتها وإخفاقاتها الماضوية.. ولأن صوت الحكمة لم يجد أذناً صاغية؛ فلقد كانت الحصيلة عودة أكثر من مليوني مهاجر في الخليج وغرق اليمن الموحد في مشكلات وأزمات لم يخرج منها حتى الحاضر.
وإذا كان الصوت المتشنج المجنون كان طاغياً ومؤثراً في المشهد السياسي الجنوبي تحديداً؛ فإنه كان سبباً في الأزمة السياسية التالية ومن ثم في الحرب اللعينة التي قضت على كل ما بقي من شراكة وقوة ووحدة.. فعلى الرغم من أن ولوج معركة عسكرية لتحقيق مآرب سياسية فشلت الدبلوماسية في إنجازها يمثل خطيئة؛ فإن استدراج الجنوب الى حرب غير متكافئة أو مدروسة وواضحة أهدافها ومعالمها؛ يعد بلا شك أكبر خطيئة مقترفة في تاريخ الدولة والنظام..
فالحال أن هنالك أصواتاً كانت رافضة لهذا الانجرار, فبرغم ما بذلته من جهد كي تبقي الأزمة تحت السيطرة السياسية وكي يبقي توازن القوة ضمانة لنفاذ وثيقة العهد والاتفاق، لكن العقلانية والحنكة السياسية والدبلوماسية تراجعت وغارت مع أول موجة نزوح للقيادات وأول دانة مدفع وأول بيان حربي، فوفقاً وقولة سعدي الشيرازي "على النَّابل أن يتأنَّى، فالسهم متى انطلق لا يعود".
الآن وبعد كل هذه الكوارث المأساوية لا يبدو حالنا اننا في أفضل حال، مازلنا نلهث ونهتف ونصفق ونضحي بالغالي والنفيس ولكن من أجل قيادات ماضوية ثأرية استبدادية، نعم ننقاد كقطيع ماشية طائعة خانعة غبية ساذجة رهنت حياتها ومصيرها بذئاب متوحشة فاتكة قاتلة يستحيل العيش بكنفها وتحت حمايتها بأمان وسلام ووئام.. فكما الخرفان إلى وقت طلب الثعابين وفق مقولة فرنسية؛ فأهل الجنوب ليسوا سوى قرابين مزهقة، ودم مهرق على قارعة ضياع جديد عنوانه الأبرز الجهل والبطش والعنف والجنون، فكل هذه الاشياء يحسب لها وئد وقتل أحلام وآمال وكرامة أجيال ثورة ونضال واستقلال وتجزئة وتوحد وصراعات وحروب وأزمات وو الخ..
نعم, فبعيد زمن من طغيان العنترية المجنونة المهلكة؛ ها هو الجنوب وأجياله الحديثة على خطى إخفاق وفشل الأجيال السالفة، لكأن صراعات وآلام الأمس واليوم ليست كافية لأن نذعن هذه المرة لصوت العقل والحكمة!, لا ادعي هنا لاحتكار الحكمة والاعتدال، فدليل عقل المرء فعله ومنطقه، لكني فقط أعد ذاتي مجرد إنسان لا يرى في الأصوات الغاضبة المنفلتة شيئاً جديداً يدعوني للتفاؤل والاطمئنان..
أتأمل في الواقع فلا أجد فيه ما يشير ويدلل بكون الجنوب الذي يتصدره الجنون والغضب والعنف والجهل والبغض والدم والبارود, سيكون جنوباً مثالياً ونظيفاً وعقلانياً وبديعاً وخالياً, أيضاً, من صراعات ومآسي وحماقة وجهالة جنوب اليوم والأمس.
محمد علي محسن
الجنوب.. ما أوله غضب آخره ندم!! 1933