لا يعتقد الكثير، ممن يمتلك أدوات التأهيل، أن العصفورة الصغيرة غير العاقلة تستطيع أن تفلسف حياتها أكثر منهم؛ في حين أننا عندما نراقب السلوك الفعلي لتلك العصفورة- مثلاً- نلحظ أن ذلك يحصل بالفعل؛ فنحن ندرك تماما أن بيتها (وليكن ذهبا) وخدامها البشر سوف يوفرون لها الحياة الآمنة المطمئنة والرزق الرغيد والمتعة المادية؛ فلا تخشى جوعاً ولا خوفاً (رصاصة قناص أو صياد) وتصحو متى تشاء, فأمنها وقوتها متوفر في الصيف والشتاء, فهي آمنة من الخوف وفي الوقت نفسه آمنة من الجوع.
لقد توفر للعصفورة أهم مقياسين للوطن, المقياس الأمني والاقتصادي, أضف أنها تسكن قفصا ذهبا ويأتيها رزقها رغدا فهل ينقصها شيء؟.. ذلكم الكثير يؤمنون بأنه لم يعد ينقصها شيء؛ بل قد حازت على كل الأشياء حتى الحرس والخدم. فلسان حالهم: إنها لن نشعر يوماً بالندم.
هكذا الكم الغالب يفلسف الحياة!, لكن دعونا نتساءل: هل العصفورة غير العاقلة فعلاً فلسفت هذه الحياة وقرأتها كما قرأها ذلكم الكم العاقل أو بتعبير أدق الذي يقتني أدوات الإدراك؟.
وللإجابة على هذا التساؤل ما علينا إلا أن نفتح باب بيت العصفورة (القصف الذهبي) ونترك لها حريتها لتختار البقاء أو الذهاب! الكثير سيتوقع أنها لن تغادر، والبعض سيتوقع أنها ستغادر ثم تعود، والقليل سيجزم أنها ستغادر ولن تعود!, وأنا اتفق مع الرأي الأخير, أي أنها ستغادر ولن تعود أبداً.
والسؤال: لماذا تركت متعة الحياة المتمثلة في وطن آمن ورزق رغيد, أضف إلى ذلك الحشم والخدم ؟ صحيح لقد توفر مقياس الوطن بيد أنه لم يتوفر من وجهة نظر البرمجة الإلهية لفطرة تلك العصفورة مقياس الحياة بحسب فلسفتها هي أي العصفورة للحياة، لا بحسب فلسفة الكم الهائل من البشر الذين استبدلوا برمجة السماء بالهوى والمتعة!.
إنه من خلال رحيل العصفورة ومغادرتها ذلك المتاع, لأنه لا يمثل لفلسفتها الحياتية شيئاً يذكر؛ نستطيع أن نفسر أن تلك العصفورة وبني جنسها من الطيور لا تفلسف الحياة كما يفلسفها الكثير من البشر في الأكل والشرب والتمتع الجسدي؛ بل فسرها فرارها على أنها (حرية) وتحليق في الفضاء العريض والفسيح، فالعصفور قد برمجتها العناية الإلهية وفطرتها على التحليق, فتلك فطرة الله التي فطر عليها العصافير وما دونها إنها فلسفت حياة الحرية وحرية الحياة, ففسرت الحياة باختصار على أنها الحرية.. ولما كانت الحرية بفلسفة العصفورة مقياس حياة فرت من (الموت/الوطن) الذي يضطهد الحريات ويصادرها..
وهكذا علّم من لا يعقِل أو من لا يمتلك أدوات التعقل من يمتلك تلك الأدوات أن الحياة حرية، لا عبودية, فلم ترض أن تبيع (حياتها/حريتها) بأغلى الأثمان (بيت من ذهب وأمن ورزق وحشم وخدم) فما بال البعض باع حياته (حريته) بأتفه الأثمان, إن من لا يعلم (لا يمتلك وسائل التعلم) يعلم من يمتلكها بشكل دائم ومستمر لكن الذي يقوني تلكم الأدوات لم يستفد وأظنه لن يستفيد.
ليس ثمة شك أنها فطرة الله التي فطر الناس عليها هي وراء تلك فلسفة تلك العصفورة للحياة التي نقرأها فيها وفي كل غير العاقلات من المخلوقات, فلسفة أبت أن تبيع حريتها؛ لأنها تعرف بالفطرة أن الحرية هي رأس ضمار أو مال الحياة, وكأنها تعلمنا قائلة: ابحث عن حياتك أولاً يا إنسان ولا تكن أقل شأناً مني, ابحث عن العلو وحلق مثلي في السماء ولا تخلد إلى الأرض وبعد ذلك ابحث عن اللحاف والغطاء.
إن العصفورة ومن دونها من بني جنسها وغيره من أضرب الكائنات غير العاقلة هي تنطلق من هذه الفلسفة نفسها؛ فلسفة لا خضوع ولا ذل ولا انقياد إلا لله، وهي بذلك تتوافق مع الناموس الفطري المتعلق بالعاقلات التي جذبتها نوازع أرضية ضيقة الأفق لتجعلها تتخلى عن عقلها لتعقلها تلك النوازع؛ لهذا نرى أو نسمع جوابهم غير منطقي عندما يسألون يوم القيامة (قالوا فيما كنتم) فكان ردهم ركيكاً (قالوا كنا مستضعفين في الأرض) مثلهم مثل ذلك العصفور (الذي كان محبوسا مستضعفا ميتا بفهمه للحياة في حين كان يراه المحنطون منعما) لكنه ما إن تأتيه فرصة للفرار بحياته (لن يتردد برهة) ومع أن أولئك كانوا قادرين أن يحصلوا على حرياتهم (حياتهم) بدليل (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) هم أصلا قد ارتضوا برمجة المقود وتخلوا عن برمجة /القائد/ فقنعوا بفلسفة حياتهم على ذلك النحو الذليل الذي لم ترض بها لعصفورة /القائدة/ وأصرت على أن تقود نفسها حسب برمجتها الربانية التي تأبى الهوان فبدوا أولئك المحنطون على ذلك الشكل الجسدي الغرائزي الذي تساووا فيه مع الأنعام تارة وهوت قيمتهم دونها تارة أخرى (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس, إنهم إلا كالأنعام بل هم أضل).
ويهبط سقف قيمتهم دون الأنعام لأنهم رضوا أن يقادوا من بشر مثلهم وقد خلقهم الله قادة, أما الأنعام فقد خلقت مذللة بقدرة لله لهذا خلقت ليقودها للناس فهي إذا لم تشذ عن فطرتها ووظيفتها مثلما شذ أولئك عن جميع الكائنات والأشياء في الأرض وفي السموات.. ولما انحرفت فطرتهم انحرفت وظيفتهم عن سائر الموجودات المخلوقة ولما كانت وظيفة كل الموجودات هي الحركة الفاعلة البناءة باتجاه العمار؛ كانت وظيفة أولئك الشاذين شاذة مثلهم وهي الحركة ضد التيار الناموسي الكوني, فكان حصول الصدام وتحول النظام إلى فوضى بسبب من استبدل عقال الله بعقال الهوى.
وختاماً: أقول إن تلك العصفورة قد تنال حتفها وهي تقترب من الأرض لتأكل أو تشرب وقد كان ذلك مبذلا لها لكنها لا تبالي أن تقتل وهي (حية/حرة)؛،فذلك أفضل لديها بكثير أن تموت في قفص وهي لم تعرف -حسب فلسفتها- طعما للحياة؛ لله در الطيور ودر فلسفتها للحياة وفهمها على أصولها؛ وكأنها تدرك أن هذه (أي الحرية) هي الحياة الجوهرية.
وتلك النملة -التي أنطقها الله ونقل لنا القرآن فلسفتها للحياة - هي كذلك لم تعرف الأنانية إلى نفسها طريقا فقد مثلت في قولها هي - أيضاً - تلك البرمجة الإلهية لأجهزة الشعور لديها، وكأنها تقول: إن المخلوق عندما يعيش لهدف لا يعيش لوحده فيكون حين الملمات آخر الفارين، وعند المسرات أول الفرحين، لهذا هي شعرت بالمسؤولية ليقول الله مترجماً كلامها: (يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم ليحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) فهي مثلت قمة حبها لبني جنسها وتوارت أنانيتها الفردية الضيقة وراء ذلك الصوت المد ي الذي دل عليه الياء فعملت على نجاتهم جميعا ولم تعمل على قتلهم وإبادتهم كما تفعل المخلوقات الغريبة من الزعامات كبشار حاليا، وهي كذلك أدركت- حسب البرمجة الإلهية لها- أن هدي السماء الذي يمثله سليمان يمثل مثالية الدولة المسلمة عندما لا يجعل الناس وحدهم محط الحقوق والعدالة والمساواة إنما يتعداهم إلى أصغر المخلوقات النمل, فمن قراءة خطاب النملة ندرك أن قانون السماء يمثل الذروة في العدل والرحمة والمساواة حتى تلك النملة قد شملتها مظلة عدالة ومساواة السماء وهو ما نفهمه من التماسها العذر لسليمان فيما لو حدث حطم بسبب الكثرة وضعف الرؤية وصغر حجم النمل، أدركت نملة رحمة الإسلام فيما اتهمته بعض المخلوقات الغريبة بأنه دين الإرهاب والقتل ولما كانت مثالية الإسلام ودولته المدنية ذات الصبغة الإسلامية تسعى لمراعاة حقوق النمل بقراءة النملة وفهمها فإنه يسعى لمراعاة تلك الحقوق فيما هو دون النملة، وحينها ننظر إلى ما حصل ويحصل للسوريين من قبل الدول الست التي تدعي المدافعة عن حقوق الإنسان, هي فعلاً تدافع عن حقوق الإنسان لكن حسب فلسفة اليهود للإنسانية؛ حيث حصروها في شعبهم المختار وما دونهم حمير.. هكذا تقول معتقداتهم؛ لهذا تم يبيدون الحمير في العالمين الإسلامي والعربي في ذلك المعتقد؛ لكنهم يبيدون السوريين تحت غطاء الإرهاب وقد لا يصدق البعض أن الإرهاب هو صناعة أمريكا وإسرائيل وطهرائيل.
د.حسن شمسان
الحرية مقياس حياة.. والأمن مقياس وطن! 1322