ربما وصلنا إلى مرحلة متقدمة من إيذاء الذات والقسوة على النفس حتى أصبحت سلوكياتنا ناضحة بالتهور وأحكامنا مؤطرة بالعجلة ونوايانا مغروسة على أرض رخوة لا تحسن احتواء جذورنا ولا نستطيع احتضان جذوعنا ولن تكون يوماً تلك النبتة الطيبة التي تعلو هاماتنا وتتماهي دونها جُل ذكرياتنا.. وصلنا حد الشطط في التعامل مع الآخر حتى أصبح الاعتذار سلوكاً يومياً نقدمه بوعي وبغير وعي، بقناعة أو بغير قناعة، وكأننا مستعدون للخطأ ومتأهبون له أكثر مما نستعد ونتأهب للصواب.. فكيف نعيد مياه الألفة والود والصفاء إلى مجاريها وقد خسرنا ثقة البعض وفقدنا حب آخرين، وحرمتنا صرعتنا من فهم من يقصد لنا الخير ويرجو لنا المصلحة؟!.. قبل هذا وذاك يجب أن نسأل أنفسنا عن تلك القيمة الاعتبارية للآخرين، حتى ندرك أنهم بشر مثلنا، تكسر أجنحتهم الجراح وتحطم أرواحهم الإهانة وقد يكونون أكثر منا إحساساً وأرقى منا شعوراً، فالبلادة التي تجثم على قلوبنا أحياناً تمنعنا من رؤية الكثير مما لا يمكن إخفاؤه، لكنها الحياة وناموسها وسنتها.
اليوم علينا أن نتعلم كيف نعيد الاعتبار لذاتٍ تسكننا طواعية، فالإنسان قالب متكامل من ذات وفكر وجسد، وكل جزءٍ من هذا القالب يدعم وجود الآخر ويساند فكرة بقائه بشكلٍ حاضر ومُلح ودائم، علينا أن نعيد الاعتبار لمن يسكن قلوبنا ويعبر أزقتنا ويعيش قريباً منا في ساعات العسر واليسر، ذلك الإنسان الذي نجهل دوره ونتجاهل وجوده ونحاول الاستقلال عنه ونحن أحوج ما نكون إليه، بينما لا يرانا هو إلا تلك الدماء التي تحيي شرايينه وتوقظ غفوة مضغته المعلقة على أغصان صدره.. لا يجدي الأسف أحياناً أمام خطأ قاتل، لكنه على الأقل يرسم ملامح توبةٍ قادمة من عالم الندم إلى عالم كل ما فيه إلى عدم..
وتماماً كما لا يمكن أن تعود الشمس إلى مخدعها إلا حين يأتي المساء لا يمكن أن ينسى بعضنا الإساءة إلا حين تأتي لحظة الأسف التي تذيب حبال العتب وتمسح عن مرايا قلوبنا ران الغضب وتمحو عن جدران أحداقنا غبار التعب، عندها فقط قد نبدأ بكتابة عهدٍ جديدٍ للتعايش مع أولئك الذين أجبرونا يوماً ما أن نغلق أبواب قلوبنا أمام كل قادم جديد.. والآن يجب أن نكون قد تعلمنا أن نحاصر جيوش المفردات المشحونة بالفضول والغضب وازدراء الآخر في منطقة متوسطة بين اللا مبالاة والاندفاع حتى لا نكون تلك العصا التي تقسم ظهر الألفة والتفاهم وحتى تبقى نوافذ القبول مشرعة أمام من لم يفقه مشاعرنا ولم نفقه مشاعره.. قرابين الأسف التي نريق دمها على أعتاب الآخرين قد تكون قُربى لقلوبهم، لكنها لن تكون كذلك بالنسبة لنا إذا لم نقلع عن عادة الخطأ ونتوب من ذنب النزق والتهور ولم نجعل من الحكمة أسلوباً وأداة للخروج من مأزق الشطط الذي نقع فيه رغماً عنا وعن من يقف أمامنا في ساعة انطفاءٍ لذبذبات الإدراك والتمييز.
ألطاف الأهدل
رد اعتبار! 1658