29 مايو.. يومٌ متشحٌ بلون السواد والحداد، ومتدثرٌ برداء ليس فيه ما يُغطي عورة الإنسان حين يتجرد عن إنسانيته، ومغلفٌ بالحقد الأسود الذي يحاول إزهاق الأرواح البيضاء بأي طريقة، وبأي ثمن!..
يومٌ لن تنساه ذاكرتي، وذاكرة كل من عرف عنه مثقال ذرة من كبرياء الثورة، ومثقال ذرة من طغيان أعداءها الذين حاولوا إحراق تلك الثورة من القلوب فاحترقوا هم.. وصاروا إلى زوال!.. لا زالت رائحة الغاز المسيل للدموع تراود أنفي، وتحبس انفاسي كلما تذكرت ذلك اليوم، ولا زالت المناظر التي كنت أظنها (سينمائية) فقط مرسومة في خيالي حين رأيتها تتجسد على أرض الواقع بشكلٍ مفزع ومرعب، ومليء بكل مفردات التناقضات المختلفة التي كانت تتناوب على عقلي في محاولة منه لاستيعاب ما يحدث أمام ناظري دون فائدة!..
يومٌ احترقنا فيه لكي يحيا الشعب من جديد، ولكي نبعث الحياة في روح الثورة المكلومة التي كانت تمر بمرحلة سُبات عميق، وكانت قد تحولت من مرحلة صناعة الفعل إلى مرحلة ردة الفعل فقط، واحترقوا في خطوتهم الأخيرة والمريرة نحو نهاية رحلة الطغيان، وإن صُور لهم أنهم حققوا انتصاراً يستحق معه أن يشرب كل أركان تلك المحرقة نخب الانتصار ونبيذ النجاح!.. احترقنا فداءً للوطن، مضحيين بساحتنا التي كانت رمز ثورتنا المفعم بالأمل، والممتلئ بكل حلم بغدٍ أجمل، واحترقوا في خطوة أولى في طريق شفي غليل الوطن المقهور منهم!.. احترقنا لتنبعث من أجسادنا روائح (عود) الحب للوطن و(بخور) التضحية من أجل اليمن، ومع كل خيمة وجسدٍ وشجرة تحترق كان الطيب ينتشر أكثر في الأرجاء، واحترقوا لتنبعث منهم روائح العفن، والنتن، وليسقط في مقدمتهم ذاك الصنم الوثن!..
احترقنا، وأمسينا على أرض سوداء، تنبعث منها حِمم اللهب من كل جانب، لكننا صحونا بعد أيام، حاملين أجسادنا الموجوعة وقلوبنا المفجوعة لنزرع سلاسل من الورد الأبيض في كل الأرجاء، كيف لا ونحن نسير على نهج ثورة سلمية كان شعارها القلم والوردة، بدلاً من السيف والمدفع، واحترقوا، ويحترقون أكثر حينما يعرف من كان لا زال في قلبه مثقال ذرة من شك أو ريب بأنهم لا زالوا يزرعون الشوك في جنبات هذا الوطن الذي استنزفوا كل مخزون الجمال فيه، لكنه فاجئهم بأنه الجمال عينه من خلال ثورة جميلة أبهرت العالم و(أحرقت) قلوبهم أكثر وأكثر!..
احترقنا لكي يعرف من كانوا لا زالوا في صف ما يسمى بـ(النظام) مدى حقده ورعونته، وأبينا إلا أن ندفع نحن الثمن حتى لا يدفعه الشعب أجمع بما فيه من كانوا يقفون في وجوهنا، واحترقوا أكثر حينما رأوا الثورة تنبعث كـ(العنقاء) من جديد، بقوة أكثر، وصلابة أقوى، وإصرار متزايد على تحقيق الحلم المنشود!..
حلموا بأن تكون ساحة الحرية مقبرة للثورة والثوار، فكانت كذلك ولكن لهم، أحرقتهم من العيون والأنظار، وتكفل الله بإحراقهم عملياً فيما سُمي بتفجير (النهدين) بعد محرقة الحقد الأسود بأيام، حيث يريهم شيء من الجزاء الذي ينتظرهم من جنس عملهم الذي اقترفوه بحقنا!..
احترقت (الخيام) ولم تحترق (الأحلام)، احترقت (الأجساد) ولم يُخضعنا إرهاب (الاستبداد)، احترقت (الأشجار) وبقيت الحرية تتدفق في أوردتنا كـ(الأنهار)، احترق (المستشفى) وذهب المجرم إلى (المنفى)، احترق كل شيء بينما بقي كل شيء!!..
29 مايو ليس يوماً للنسيان، وليس يوماً للحزن أيضاً، هو يوم للفخر، للعزة ، للكرامة، لارتفاع الهامات، يومٌ ستتذكره الأجيال القادمة، يومٌ ليس كسائر الأيام!!.
طارق فؤاد البنا
حين احترقنا.. واحترقوا!! 1668