إن مفردة الالتزام تنخلع على كل سلوك سواء كان فردياً أو مؤسسياً؛ لهذا نستطيع أن نصف به- أي الالتزام- فرداً أو مؤسسة، فهو أشبه بشهادة الجودة التي تقيّم مدى الانضباط لكل منهما، ولما كانت خبرات البشر في كل شيء (موضوعي علمي إنساني أو تجريبي) خاضعة للنسبية حتى في التخصصات المتساوية؛ فإن هذا يعني أن الحياة قائمة على التكامل في كل شيء؛ والتكامل يقتضي أو يترتب عليه تماهي الذاتية الجامدة وذوبانها تاركة المجال للوعي أو العقل الجمعي الذي يهيئ مساحة في الذات الفردية يجعلها متقبلة الرأي الآخر الناقد، فالاستسلام إلى سلطة الذاتية المنفردة قد يجرفها ضخ مشاعر العاطفة إلى مهوى الردى الذي يغيب فيه شعاع الضحى فتجد سلطة الذاتية نفسها وقد هوت إلى مكان سحيق ضيق الجوانب لا يجد صاحب الذات لنفسه حتى متنفسا أو تراه محصوراً في مكان لا يستطيع فيه حراكاً.
وهكذا دائماً يكون ناتج الذاتية سلبيا؛ لأن أساسه عاطفي وليس عقليا؛ فالعاطفة تنزع إلى الذات ضيقة الأفق في حين أن العقل ينزع إلى الموضوعي العلمي وهذا الأخير يخضع إلى النسبية في الخبرة وهذه ليست ذاتية إنما جمعية.
وبناء على ذلك فإن ناتج الجودة أو حصول شركة ما على شهادة الجودة لمنتج ما هو نتيجة مثمرة لسلوك موضوعي ينتجه عقل جمعي أو جمع موضوعي تذوب فيه ذاتية الأفراد أو تموت؛ فأي جودة يحصل عليها أي منتج سلوك عملي علمي يترتب عليه التخلي عن الذاتية وتقبل النقد أو ترك مساحة كبيرة لتبادل الآراء- مساحة تغيب فيها الذاتية المفرِّطة وأضف إلى ذلك ضرورة غياب المركزية الإدارية فهي أيضاً لا بد أن تغيب فانفرادها الآراءَ يعيب؛،لأنها عبارة عن ذاتية مبطنة أو تلبس ثوب الملك أو الرئيس أو الأمير؛ بمعنى أن المركزية في أي سلوك تحُول غالبا دون نضوج رأي واتسامه بالصواب؛ لهذا السبب كانت ذاتية رأي فرعون (ما أريكم إلا ما أرى) مغرقة، وتلاشي ذاتية الملكة السبئية في جمع الملأ أو البرلمان منجية (ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون) فغياب الذاتية على حساب شيوع الرأي الجمعي يكون ناتجه إيجابي وهو أشبه بقانون صحيح؛ حيث كان ناتج تلاشي أو ذوبان ذاتية ملكة اليمن /الاستقرار/ بجانبيه المادي والمعنوي (نحن أولوا قوة) مادية ( وأولوا بأس شديد) معنوية.. فغياب الذاتية صورت لنا هامات كأنها تداني السماء في حين أن بروز وتعالي الذاتية نفسها دست فرعون وقومه تحت الماء, وهذه الذات هي من هوت بقيمة أو مكان الإنسان فجعلته أرضياً وقد كان مكانه السموات.
إن بروز وغياب الذاتية يمثل الوجه السلبي/الإيجابي في الكون وفي الحياة؛ فكلما غابت الذاتية كلما سادت الإيجابية الحياة والعكس صحيح.. لهذا كانت أول معصية نقلها لنا القرآن الكريم هي أنانية الذات التي هوت بمقام الإنسان إلى الأرضين وقد كان مقامه السموات؛ أنانية المخلوق التي لم تستوعب الدرس جيدا من الخالق، فليس ثمة شك أن إبليس كان في صف الملائكة المخلوقين المتسائلين لكن ذاته الوقحة تعالت (أنا خير منه) ويتباهى في الوقت فالنقد مبدأ عظيم قد علمه لنا القرآن الكريم وتقبلته أكبر قداسة مركزية في الكون كله؛ وهو ما نقرأه في قول الله تعالى على لسان الملائكة (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) فعلى الرغم من أن الملائكة أقروا بعبوديتهم المحضة لله تعالى في نهاية الآية فإنها تضل عباده عن اقتناع وليست عمياء أو عليها قناع فهذه هي الطاعة الخاضعة لقانون السماء، وليست- كما يروج بعض الخطائين- عمياء، وما يدل على ذلك أن الله لم يوبخ الملائكة ولم يطلب منهم تلك الطاعة العمياء مع أنه خالقهم؛ أو ليست الآلة تطيع صانعها طاعة عمياء!.. لكن الخالق لم ينفر ممن خلقهم كما يفعل بعض المخلوقين؛ إنما حاججهم أو أشبع تساؤلهم بردهم إلى علمه الذي وسع كل شيء؛ وإذا كانت الذات الإلهية ذات القداسة المطلقة والصواب المطلق والحق المطلق قد استمعت إلى تساؤلات الملائكة المخلوقين فلم ذاتية بعض البشر لا تتسع لذاتية متساوية معها؟.. وقد استمعت ذاتية الخالق الأعلى للمخلوق المتناهي في الدنو والصغر مقارنة بمن خلقه ويأتي ذلك الفارق من تقويم الخالق للمخلوق أي لم يُخلق بأدنى عيب معنوي يذكر؛ فلم يأت منه العيب إذا ويتجاوز بذاتيته المخلوقة قداسة ذات الخالق؟؛ كأن لسان حال الأولى أكبر تعالياً من ذاتية الله عندما نرى ذاتية المخلوق تقدس نفسها فلا تستمع لذاتية من جنسها، بل تدعي لنفسها العقل والوعي والعلم والرأي دون الآخرين! ألا ترون أن ذلك المعتوه قد أعطى لذاته قداسة أكبر من قداسة الله؛ حيث استمعت قداسة الله نقد أو تساؤل مخلوقاته؛ ولم تعنفهم بل ردت عليهم بالحجة مقنعة لا ساخطة؛ وها هي ذاتية فرعون ادعت لنفسها (ما أريكم إلا ما أرى) فكانت نتيجة الذاتية- هو ما كان مثار تساؤل الملائكة سلفا -الفساد في الأرض وسفك الدماء؛ فذاتية فرعون المتعالية (أنا ربكم الأعلى) والمستهترة (يا هامان ابن لي صرحا) (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) وكانت ناتج ذاتية الغرق. وعندما يقول قائل: إن هناك من الطواغيت من ادعى لذاته الألوهية أو قداستها! فالرد عليه : إن هذا السافل قد تجاوز حنى قداسة الذات الإلهية؛ لأن الذات الإلهية الخالقة استمعت لنقد الذات المخلوقة ولم تستمع المخلوقة لذوات مخلوقة مثلها!! نفسه بشيء لم يخلقه هو (خلقتني من نار وخلقته من طين) ألا ترون أن الذاتية هي سبب رئيس فيما يحصل من عجين وهي من جعلت الأمة الإسلامية وشعوبها في صورة الطحين, أليس هي ذاتية إبليس اللعين ومن اتخذه أسوة من البشر الملاعين؟.
د.حسن شمسان
سلطة الذات.. هوت بالإنسان من عالي السموات! 1691