(1)
"ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار".. بهذه العبارة المركزة كثف الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، تجربة بشرية، تعكس غفلة الإنسان وعجزه عن الاستفادة من حكمة التاريخ وما يقدمه من عبر، تصلح له زاداً، يجنبه تكرار أخطاء الماضي ويحميه من الوقوع في كوارث مشابهة، لتلك التي وقع فيها أسلافه، ويقود خطاه في الحاضر ويضيء له دروب المستقبل.
فإذا ما حاولنا إعادة اكتشاف ذاتنا ومصادر قوتنا، استناداً إلى عبر الماضي، فلعل أول ما سنكتشفه من مصادر القوة هو عنصر الوحدة، وهو عنصر يرقى إلى مستوى الضرورة بالنسبة لبناء الحضارات.. فالوحدة هي التي مكنت بُناة الحضارات الإنسانية، عبر التاريخ، من تشييد حضاراتهم، كما مكنت أسلافنا من بناء حضارات عديدة، كان آخرها الحضارة الإسلامية، التي قامت على مبادئ التضامن والتكافل والتراحم والتسامح والعدل والمساواة بين بني البشر جميعهم. وكان عنوانها (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.. لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. كلكم لآدم وآدم من تراب.. مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.. لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ليس بمسلم من بات شبعاناً وجاره جائع، مازال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورّثه)، إلى آخر ما يميز هذه الحضارة من أقوال وأفعال، جعلت منها نموذجاً إنسانياً راقياً.. وإن كانت قد تحولت فيما بعد، على أيدي الحكام المستبدين، إلى ملك عضوض، تنكر للقيم، التي طبعت هذه الحضارة بطابعها، في مرحلة صعودها وتألقها.. مما هيأ لتفكك أوصال الكيان السياسي الواحد لهذه الحضارة وتناثره إلى كيانات صغيرة ضعيفة، وكانت النتيجة تخلف الأمة وتلاشي طاقتها الإبداعية.
فهل كان يمكن لهذا النموذج أن يتحقق وأن يتحول الحفاة العراة رعاة الشاة، في الجزيرة العربية، المتنافرون المتقاتلون، الذين كانوا يعيشون على النهب والسلب ويئد بعضهم بناته أحياءً خشية إملاق، هل كان يمكن أن يتحولوا إلى قادة فكر وفقه وسياسة وإدارة وحرب، في فترة زمنية قصيرة، لا تتجاوز عقدين من السنين تقريباً؟ هل كان يمكن أن يتحقق ذلك قبل أن تتحقق الوحدة أولاً ويزول التنافر والتناحر والفرقة والشتات؟.
لقد بدأ القائد الأعظم، محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم)، بإرساء قواعد الإيمان وسط عشيرته الأقربين, ولكنه لم يتوقف عند حدود عشيرته، بل تجاوزها إلى العشائر الأخرى، وسعى إلى إذابتها في نسيج واحد، ليصنع منها أمة واحدة وكياناً سياسياً واحداً.. وهكذا تحولت العشائر المتناحرة، شبه البدائية، كما تحولت فيما بعد البلدان المتعادية المتنافرة، إلى أمة واحدة، تحمل رسالة التوحيد إلى البشرية كلها.. وما لبثت هذه الأمة أن احتلت موقع الصدارة بين أمم الأرض، وأصبحت تقود العالم كله لقرون عدة.. ولم تُزح عن موقعها إلا عندما ضعفت وحدتها وتجزأ كيانها إلى كيانات صغيرة هزيلة، عديمة الأهمية والتأثير.
هذه هي إحدى أهم العبر، التي يمكننا أن نستمدها من الماضي. وهي عبرة التلازم بين الوحدة والقوة. ليست القوة بالمعنى العسكري فحسب، بل القوة بمعانيها المختلفة: قوة العقيدة والقيم والسياسة والاقتصاد والعلم والإبداع. أو بتعبير أشمل، التلازم بين الوحدة والحضارة، بمفهومها العام.
أما العبرة الأخرى، التي لا تقل أهمية عن العبرة السابقة، فهي أن الوحدة لابد أن تقوم على العدل والمساواة وتحقيق مصالح الشعب كله, لأن الدواعي الحقيقية للوحدة، هي النزوع إلى تحقيق المصلحة العامة أي المصلحة، المادية والمعنوية، لكل المواطنين، دون استثناء, فإذا انحرفت عن مسارها، وجعلت هدفها تحقيق مصالح أسرة من الأسر أو فئة من الفئات أو عشيرة من العشائر أو منطقة من المناطق أو طائفة من الطوائف، على حساب عامة المواطنين، فقدت شرعيتها ومبررات وجودها، مهما رفعت من شعارات، وغدا العمل على تصحيح أوضاعها وإعادتها إلى مسارها الصحيح، بدءاً بتغيير حكامها، الذين انحرفوا بها عن مسارها وابتعدوا بها عن أهدافها، غدا ضرورة لاستمرارها وواجباً وطنياً، مالم يتم القيام به، فإن التجزؤ يصبح خياراً إجبارياً، يفرض نفسه على الكيانات الموحدة، وذلك للدفاع عن المصالح المهملة، في وجه استئثار المركز وطغيانه، وعجزه عن التعبير عن مصالح المواطنين جميعهم. هذا ما يحدثنا به التاريخ، وهذه عبرة أخرى، من أهم عبره.
فإذا ما أخذنا اليمن على حدة، فإننا سنجد أن أزهى عصوره، هي تلك العصور التي كان فيها موحداً، وأضعفها، هي تلك التي كان فيها ممزقاً، تتصارع في داخله القوى المحلية، وتتقاتل الكيانات السياسية المتعددة، على مساحات ضيقة من الأرض.. هذه الحالة تكاد تكون أشبه بالقانون العام، الذي حكم التاريخ اليمني بمجمله قديمة ووسيطه وحديثه, وهو ما يدفعنا إلى استلهام التاريخ ونحن نعالج المشكلات الراهنة المتعلقة بالوحدة اليمنية، القائمة في وجداننا، الغائبة في الواقع الموضوعي.
والسؤال الذي يمكن أن يتبادر إلى الذهن هنا، هو: لماذا نتردد تجاه خيار التجزئة، رغم خيبة الأمل في الوحدة القائمة، ورغم ما تبدَّى في سلوك السلطة الحاكمة من سوء، ومن فساد غير مسبوق، حوّل الوحدة من نعمة إلى نقمة، ومن رحمة إلى عذاب، ودفع البعض، تحت مشاعر الإحباط، إلى إنكار هويتهم اليمنية الجامعة والبحث عن هوية جديدة، بعد أن كانوا من أشد المدافعين عن وحدة اليمن، شعباً وأرضاً وتاريخاً وهوية؟ قد لا تخرج الإجابة الصحيحة على هذا السؤال عن أسباب أربعة، يمكن إيجازها بالآتي:
1- لأن الوحدة تعني القوة، بكل ما تتضمنه في بنيتها من مقومات القوة وشروطها، كالكثافة السكانية والأرض الممتدة، ذات التنوع والتكامل، والعمق الحضاري والأرومة الواحدة والتاريخ الواحد واللسان الواحد والعقيدة الواحدة. بما توفره هذه المقومات المادية والمعنوية من شروط مواتية لانطلاق الإنسان في دروب العلم والإبداع والتحرر من عوامل الكبت والحاجة، وبناء قدرته العلمية والاقتصادية والدفاعية، وضمان أمنه القومي، والارتفاع إلى مستوى الندية في التعامل مع القوى الفاعلة على المسرح الإقليمي والعالمي.
2- لأن التجزئة تعني الضعف والوهن والعجز عن حماية الذات، والاستسلام للمؤامرات والأطماع الخارجية، كما تعني الإحساس الدائم بالدونية والنقص والرضاء بدور التابع الذليل للقوى العالمية، الطاغية بقدراتها العسكرية ومطامعها الاقتصادية ووسائلها المادية والمعنوية المتفوقة.
3- لأن الانحصار في الجزء يقود إلى ضياع الكل والجزء معاً. في حين أن التمسك بالكل يصون الجزء ويحميه ويعزز دوره. فالجزء يكتسب قوته وقيمته الحقيقية، عندما يصبح جزءاً في الكيان الأكبر. والكيان الأكبر، كما هو معروف، يتخطى، بقدراته، المتولدة من التحام الأجزاء فيه، يتخطى مجموع إمكانيات وقدرات الأجزاء المكونة له، لأن الوحدة ليست حاصلاً رقمياً لجملة ما تمثله الأجزاء، بل إن التحام الأجزاء وتفاعلها في كلٍ واحد، يفجر قدرات، تفوق وتتجاوز مجرد الجمع الحسابي لقدرات الأجزاء متفرقة. وهكذا فإن مواجهة التحديات الكبرى، التي تواجهنا، في عالم اليوم، لا يمكن أن تبلغ درجة التأثير المطلوب، إلا في إطار الوحدة.
4- لأن المساوئ، التي عانى منها المواطنون في ظل الوحدة، ليست سمة من سمات الوحدة، بل هي مساوئ صنعها النظام الحاكم. فقد طبع النظام الحاكم، بكل خصائصه المعروفة، طبع الوحدة بطابعه، فحولها من كيان يوفر شروط الانطلاق نحو الحياة الجديدة، التي حلمنا بها، إلى كيان منفر، جسدت السلطة الحاكمة فيه كل الصفات الكريهة، من نهب وفساد وتخريب وظلم واستبداد وتمييز بين المواطنين، بحسب انتماءاتهم الأسرية والعشائرية والمناطقية والسياسية.. هذه الصفات وغيرها، من الصفات التي اتصفت بها السلطة الحاكمة، لا علاقة لها بالوحدة، في حد ذاتها. فإذا ما تم تغيير السلطة الحاكمة، برموزها وعقليتها وممارساتها، وطُهرت أجهزت الدولة من آثارها المشؤومة، وحلت محلها سلطة وطنية، تمتلك مشروعاً وطنياً وتتصف بصفات مغايرة للسلطة السابقة، وتخضع لرقابة شعبية فاعلة، فإن الوحدة ستتخلص من العيوب والتشوهات، التي علقت بها، وتستعيد ألقها وبهاءها، وتحقق الرضاء لجميع المواطنين.
5- لأننا على يقين بأن الهوية الجامعة لكل اليمنيين هي هوية واحدة (الهوية اليمنية), وفوق هذه الهوية الجامعة مستويات من الهويات الجامعة أيضاً، تبدأ بالهوية العربية، فالهوية الإسلامية، وانتهاءً بالهوية الإنسانية. وتتفرع عن الهوية اليمنية الجامعة هويات أدنى، كالهوية المناطقية والهوية القبلية والهوية القروية والهوية الأسرية...إلخ.. والخطورة هنا تكمن في استبدال الهوية الجامعة بالهوية الفرعية، وبالتالي تغليب الانتماء المناطقي أو القبلي أو القروي أو الأسري على الانتماء الوطني العام. لأن ذلك يهدد بتفكك المجتمع الواحد إلى كيانات اجتماعية متنافرة. وحتى عندما تعددت الكيانات السياسية، كما حدث في معظم مراحل التاريخ اليمني، فإن الهوية الجامعة، بقيت هي الضامنة لوحدة المجتمع وتعاونه وتعايشه.. ومن الغريب اليوم أن الدعوة إلى إنهاء الوحدة، ككيان سياسي، يرتبط في أذهان البعض بإنهاء الهوية اليمنية الجامعة. وهو أمر لم يحدث عبر التاريخ، ولا يمكن أن يحدث اليوم أو في المستقبل. لسبب بسيط، وهو أن الهوية واقع موضوعي، لا يخضع لرغبات الأفراد والجماعات، ولا تلغيه المشاريع السياسية والاجتهادات الفكرية.. فالخلط بين الكيان السياسي، الذي يحدده البشر، بما يخدم مصالحهم، وبين الهوية الجامعة، التي تتجاوز الرغبات والاختيارات والاعتبارات السياسية والمصالح الاقتصادية، هو خلط يتنافى مع الحقائق الموضوعية، وإن كان يخدم المشاريع السياسية، المحلية والإقليمية والدولية، التي تتزاحم اليوم على الساحة اليمنية.
(2)
وتوخياً لتحقيق قدر من الفهم المشترك، لمسألة وحدة الهوية الجامعة، رغم تعدد الكيانات السياسية، لابد من العودة إلى التاريخ. لأن التاريخ هو ذاكرة الشعوب، ولأنه لا يمكن فك طلاسم الحاضر وفهم مشكلاته إلا بالرجوع إلى جذورها، الضاربة في عمق الماضي.. فإذا ما ألقينا نظرة سريعة إلى التاريخ اليمني، القديم والوسيط والحديث والمعاصر، فستنبلج أمامنا حقيقة، لا يمكن إنكارها، وهي أن الهوية الجامعة للشعب العربي في اليمن هي هوية واحدة لم تتغير عبر التاريخ، وأن وحدته، مجتمعاً وتاريخاً وجغرافيا، ظلت وحدة قائمة، حتى اليوم، رغم تعدد الكيانات السياسية.. بل إن أبرز الأسماء، التي أطلقت على هذه البقعة من الأرض، عبر التاريخ، وأكثرها شيوعاً (كالعربية السعيدة، التي أطلقها مؤرخو اليونان والرومان، في التاريخ القديم، والعربية الجنوبية، التي أطلقها المؤرخون والرحّالة الأوربيون، في التاريخ الحديث، واليمن، التي أطلقها العرب، عبر التاريخ)، تؤكد وحدة الأرض والشعب. فقد أطلقت هذه التسميات على كل الأرض الممتدة من جنوب الحجاز، وحتى عدن والمهرة وتعاملت كل الدول والإمبراطوريات القديمة والإسلامية والحديثة، مع هذه البقعة من الأرض، ككيان جغرافي واجتماعي واحد، رغم تعدد كياناته السياسية. لقد كانت الكيانات السياسية المتعاصرة والمتعاقبة، تنشأ وتندثر، على سطح الحياة اليمنية، دون أن تمس العمق، الذي ظل كتلة واحدة، متفاعلة متماسكة. كان هذا هو حال اليمن، عبر تاريخه الطويل، وحتى يومنا هذا. فاليمن لم يعرف حدوداً ثابته، بين الكيانات السياسية، التي نشأت في أجزاء منه، في التاريخ القديم والوسيط والحديث.. ولم توضع فيه حدود واضحة، إلا في التاريخ المعاصر، وعلى وجه التحديد في القرن العشرين، عندما وقع العثمانيون مع البريطانيين عام 1914م اتفاقية ترسيم الحدود، بين منطقة النفوذ العثماني (شمال اليمن)، ومنطقة النفوذ البريطاني (مستعمرة عدن ومحمياتها)، وهو ترسيم رفضه الإمام يحي، ثم اضطر إلى قبوله، كأمر واقع، عام 1934م، تحت ضغط الصراع الناشب مع الملك عبد العزيز آل سعود في الشمال، والتوتر، الذي يصل حد الاشتباكات المسلحة، في نقاط التماس مع مناطق المحميات في الجنوب، وتصاعد الأصوات المعارضة في الداخل. أما قبل ذلك فقد نشأت، كما قلنا، كيانات سياسية عديدة، بعضها متزامن، دون أن ترسم حدوداً ثابتة بين مناطق نفوذها، ودون أن يلغي تعددها الهوية الواحدة للأرض والشعب، ودون أن يلغي أي كيان سياسي هويته اليمنية. وكان الكيان السياسي القوي يمد رقعته ليشمل أجزاءً من الشمال وأجزاءً من الجنوب أو من الشرق أو من الغرب، وعندما يضعف، تتقلص مساحة نفوذه، حتى لا تتجاوز رقعة ضيقة، في منطقة من المناطق, كل هذا ضمن إطار اليمن الواحد.. فالنقوش اليمنية، التي يُكتب التاريخ العلمي لليمن القديم استناداً إليها، تورد أسماء أهم الدول اليمنية القديمة، وهي:
- دولة سبأ، وعاصمتها (مأرب), وهي الدولة الأم، التي نشأت جميع الدول الأخرى على هامشها، وظل اسمها يتردد في ألقاب الملوك الحميريين، حتى بعد انهيارها, وقد بسطت سلطانها في عهود حكامها الأقوياء على اليمن كله. فمثلاً تحدثنا النقوش، بأن الملك السبئي كَرِب إل وتر بن ذمار علي، جرد حملات تأديبية على المناطق المتمردة على الدولة، كمناطق أوسان ونجران والمعافر وباب المندب والجوف، وكافأ منطقتي حضرموت وقتبان، اللتين حافظتا على ولائهما للدولة.
- دولة معين، التي نشأت في الجوف وكانت عاصمتها (قرنو)، ومدت نفوذها وعلاقاتها التجارية داخل اليمن، وإلى مناطق بعيدة، خارج اليمن.
- دولة حضرموت، التي أنشأتها قبيلة حضرموت اليمنية، فغلب اسم القبيلة على منطقة سكناها، ثم على الدولة، التي ضمت حضرموت والمهرة، حتى حدود عمان.. وأثناء الحرب، التي دارت بين الحميريين والسبئيين، وانتهت بتوحيد مناطقهم، تحت حكم الحميريين، شاركت حضرموت في الحرب وغيرت مواقفها من الأطراف المتحاربة، بحسب مصالحها، واستطاعت أن تبسط سلطانها على مناطق من قتبان، لتصل إلى تخوم مناطق ردمان وخولان، في وسط اليمن، وأصبحت بذلك جارة مباشرة لكل من سبأ وحمير، واتخذت من (شبوة) عاصمة لها.
- دولة قتبان، وعاصمتها (تمنع), وقد نشأت في منطقة بيحان الحالية، ووادي حريب، وامتد سلطانها إلى يافع ودثينة وعدن وباب المندب.
- دولة أوسان، وعاصمتها (مسورة), وقد نشأت في وادي مرخة، ووسعت نفوذها على حساب قتبان وحضرموت، وبلغت حدودها البحر العربي وخليج عدن.
- دولة حمير.. وتمتد مناطق حمير من يريم وجميع ما يعرف حالياً بالمناطق الوسطى، والضالع ويافع وأبين ولحج، إلى حضرموت والمهرة, فأبناء حمير ينتشرون في كل هذه المناطق، ويشكلون الغالبية العظمى من سكانها، بل لقد سميت منطقتي حضرموت والمهرة، باسمي القبيلتين الحميريتين (حضرموت ومهرة). وقد اتخذ الحميريون من (ظفار)، القريبة من مدينة يريم الحالية، عاصمة لهم، ووسعوا رقعة دولتهم، حتى وحدوا اليمن كله تحت سلطانهم، في نهاية القرن الثالث الميلادي، على يدي ملكهم شَمَّر يُهَرعِش, واستمر اليمن موحداً حتى القرن السادس الميلادي. واتخذ ملوكهم لقباً جامعاً (ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابهم، طوداً وتهامة).. ويذهب المؤرخ اليمني الكبير، المرحوم محمد عبد القادر بافقيه، إلى أن يمنت، أو يمنات، يمكن أن تكون الساحل المعروف في المصادر الإسلامية باسم (الشحر).
ومن الثابت أن جميع الدول اليمنية القديمة أنشأتها قبائل يمنية, وأن مواطن هذه القبائل متداخلة وممتدة على مساحات، لا يمكن حصرها ضمن التحديدات المعاصرة (شمال- جنوب- تهامة- هضبة- مشرق- مناطق وسطى).
ويذهب علماء الأنساب إلى أن جميع القبائل اليمنية تنتمي إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ويسمى (سبأ الأكبر), وكان له أولاد كثر، ولكن المُلك كان لولدين منهم، هما حمير وكهلان.. وتفرعت عن حمير قبائل كثيرة، منها قضاعة وخولان وحضرموت ومهرة والمعافر والأصابح ويافع والكلاع وغيرها. في حين تفرع عن كهلان الأزد ومذحج وهمدان وكندة وطيئ والأشاعرة وعك وغيرها.. وقد انتهى مجد الدول اليمنية القديمة، بانتهاء الدولة الحميرية على أيدي الأحباش، الذين خلفهم الفرس، قبل أن ينضوي اليمن كله تحت ظل الدولة الإسلامية.
وفي عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وخلفائه الراشدين، قُسم اليمن إدارياً إلى ثلاثة مخاليف، هي مخلاف الجند، وهو أكبرها، وقد ضم وسط اليمن وجنوبه، ماعدا حضرموت.. ثم مخلاف صنعاء، الذي ضم جميع المناطق الواقعة في شمال مخلاف الجند, ثم مخلاف حضرموت، وضم حضرموت والمهرة، حتى حدود عمان.. وظل اليمن ولاية تابعة للدولة الإسلامية، حتى ضعفت الدولة الإسلامية وتفككت أطرافها، فنشأت دول يمنية مستقلة، متجاورة متحالفة أو متنافسة أو متحاربة، شأنها شأن الدول اليمنية القديمة, إذ تعددت الكيانات السياسية وتزامن بعضها، واتسعت مناطق نفوذها أو تقلصت، بحسب قوتها وضعفها.. فانطلق طالب الحق، عبد الله بن يحي الكندي، في أواخر العصر الأموي، انطلق من حضرموت، ووسع رقعة دولته، حتى ضم معظم مناطق اليمن (شمالاً وجنوباً) وجعل صنعاء عاصمة له, ومد علي بن الفضل رقعة دولته من يافع وأبين إلى عدن ولحج وتعز وإب، حتى بلغ صنعاء واتخذ من (المذيخرة)، في منطقة العدين، بمحافظة إب الحالية، عاصمة له. وفي عهود الأئمة الزيديين حكم بعضهم (كالمتوكل على الله إسماعيل) مناطق يمنية، بلغ امتدادها، في أوج توسعها، حضرموت وعدن وصنعاء وصعدة ونجران، حتى أقصى حدود اليمن الشمالية,, وبسطت الدولة الزيادية (عاصمتها زبيد) والدولة النجاحية (عاصمتها زبيد أيضاً) والدولة الصليحية (عاصمتها صنعاء ثم ذي جبلة) والدولة الأيوبية (عاصمتها تعز) والدولة الرسولية (عاصمتها تعز أيضاً)، بسطت جميعها سلطانها على مناطق واسعة من اليمن (شماليةً وجنوبيةً، دون تمييز)., وكانت عدن، مثلاً، تابعة لهذه الدول، على التوالي, وكان الطاهريون يحكمون عدن كعمال للدولة الرسولية. ولما تفككت الدولة الرسولية، أنشأوا دولتهم المستقلة، انطلاقاً من عدن، وبسطوا سلطانهم على المناطق الممتدة من عدن إلى تعز ورداع وتهامة وصنعاء، وبعض المناطق في شمال صنعاء، واتخذوا (المقرانة)، بالقرب من دمت، عاصمة لهم, وظلوا يبسطون سلطانهم على عدن، حتى مجيء العثمانيين، في مطلع العصر الحديث.
وإذا كان الشعر، كما يقال، ديوان العرب وسجل تاريخهم، فإنه قد أكد حقيقة وحدة اليمنيين، أرضاً وإنساناً، وإن تعددت كياناتهم السياسية. فالأسير اليماني، عبد يغوث الحارثي النجراني (قتل عام 613م تقريباً) يؤكد الهوية اليمنية، من نجران إلى حضرموت، في قصيدة مؤثرة، رثى فيها نفسه، قبل قتله، على أيدي آسريه، من قبيلة تيم القرشية، مما جاء فيها:
ألا لا تلوماني كفى اللوم مابيا فما لكما في اللوم خير ولا ليا
ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل وما لومي أخي من خصاليا
أقول وقد شدوا لساني بنسعة أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا
وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانيا
أيا راكباً إما عرضت فبلغن نداماي من نجران أن لاتلاقيا
أبا كرب والأيهمين كليهما وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا
ويحاور عمر بن أبي ربيعة راحلته المنهكة من طول السفر، وهو يقترب من مدينة عدن، قائلاً:
تقول عيسي وقد وافيت مبتهلاً لحجاً وبانت ذرى الأعلام من عدن
أمنتهى الأرض يا هذا تريد بنا فقلت كلا ولكن منتهى اليمن
أما امرئ القيس، أمير كندة وشاعرها، فقد حمل إليه رجل، وهو في موضع اسمه (دمُّون)، بالقرب من مدينة تريم الحالية، نبأ مقتل والده، فأنشد يقول:
تطاول الليل عليك دمُّون دمُّون إنا معشر يمانون.. وإننا لأهلنا محبون
ولم يدر في خلده أن قوماً سيأتون من بعده ينكرون أنهم معشر يمانون، ويبحثون لأنفسهم، لا عن كيان سياسي خاص فحسب، بل وعن هوية أخرى، بديلة عن هويتهم الكِنْدية الحميرية اليمانية.
3
كل ما تقدم يؤكد بأن لليمن، أرضاً وشعباً، هوية جامعة واحدة، وإن تعددت الهويات المحلية أو تعددت الكيانات السياسية، وأن اليمن لم يعرف الحدود المرسَّمة الثابتة، بين كياناته السياسية المختلفة، إلا عام 1914م، كما أسلفنا. ولعلها من المفارقات المحزنة، في تاريخنا المعاصر، أن السلطتين، الاستعمارية في الجنوب والإمامية في الشمال، لم تقدما على تقييد حركة الإنسان اليمني وتنقله في وطنه الواحد، من صعدة إلى عدن، ومن تهامة إلى المهرة. في حين أن السلطتين الثوريتين، اللتين خلفتا الاستعمار والإمامة، في كل من الشمال والجنوب، وضعتا من الحواجز والعوائق والإجراءات الإدارية والأمنية، شديدة التعنت والتعقيد، ما صعَّب من تواصل أفراد الأسرة الواحدة، لعقود من الزمن. هذه المفارقة المحزنة، تقربنا من فهم تلك المشاعر الفياضة بالفرح والغبطة، التي غمرت اليمنيين جميعهم، عندما توحد الكيانان السياسيان في كيان يمني واحد، عام 1990م، وأزيلت الحواجز الحدودية وتدفق الشماليون نحو عروس البحر الأحمر، مدينة عدن، ملاذهم من ظلم الإمامة وحاضنة ثوراتهم وملهمة أحلامهم ونافذتهم إلى العالم الحديث. كما تدفق الجنوبيون نحو أهلهم وذويهم في مدن الشمال وأريافه، يصلون ما انقطع من روابط القربى ويستعيد بعضهم ذكريات طفولته ويستعرض المناضلون سجل نضالهم، من خوضهم معارك الدفاع عن ثورة سبتمبر، إلى انطلاقهم من الشمال، قاعدة تدريبهم وتمويلهم وإيوائهم، انطلاقهم لمقارعة الاستعمار في الجنوب، ثم عودتهم للانخراط في صفوف المقاومين داخل صنعاء المحاصرة، أو المقاتلين خارج صنعاء، لفك الحصار عنها. حيث سقط الكثيرون منهم شهداء، إلى جانب إخوانهم الشهداء من أبناء الشمال، ولم يسأل أحد منهم أخاه، إن كان قد قدم من مناطق الجنوب أو من مناطق الشمال, فلم تكن في ذلك الزمن الصعب الجميل مسألة الانتماء إلى منطقة من المناطق أو جزء، من أجزاء الوطن الواحد، ذات اعتبار أو أهمية، كما يراد لها اليوم أن تكون.
ولكن من المؤسف أن اليمن عندما توحد سياسياً، عام 1990م، لم يتوحد إلا من حيث الشكل، أما المحتوى فقد تم التفريط به، منذ اليوم الأول من عمر الوحدة، تفريطاً هدد وجود الوحدة، حاضراً ومستقبلاً، وولد ردود أفعال، بلغت لدى البعض، ممن عانوا في عهد الوحدة، حد إنكار الهوية اليمنية الجامعة وتغليب الهويات المحلية.
ولعل من أبرز مظاهر التفريط بمضمون الوحدة، خلال العقدين المنصرمين من عمرها، ما يلي:
1. الفساد السياسي والمالي والإداري والقضائي والتعليمي والصحي والاقتصادي والإثراء غير المشروع والنهب المنظم للمال العام.. إلخ، من قبل الفئة الحاكمة، التي ضمت إلى مكوناتها أفراداً من مختلف مناطق اليمن، بما في ذلك المناطق الجنوبية.
2. شن حرب استحواذية، عام 1994م، على ما تبقى من مكونات دولة الجنوب السابقة، وتدمير القدرة العسكرية والأمنية والإدارية، وتسريح مئات الآلاف من العاملين في الأجهزة العسكرية والأمنية والمدنية، وتعميم النهج الشمالي الفاسد على الجنوب بأكمله.. ثم التعامل مع المحافظات الجنوبية، وكأنها دار فيد ونهب، أطلقت فيها أيدي المتنفذين والمتسلطين، ليعيثوا فساداً، كما هو دأبهم في الشمال، دون مراعاة لحساسية المواطن في الجنوب تجاه مظاهر الفوضى والانفلات الإداري والفساد المالي والسلب والنهب، بعد أن كان قد عرف الدولة والنظام واحترام الحق العام، ودون اكتراث بما يولده هذا النهج الغريب من ردود أفعال، وما يراكمه في النفوس من عوامل السخط والنفور، ومن تحولٍ للمعاني الجميلة للوحدة في ذهن المواطن، إلى معاني مستمدة من الواقع القبيح، الذي أوجدته السلطة وحرصت على تكريسه. والتبس الأمر على الكثيرين، فأصبحت الوحدة ذاتها، في نظرهم، مسؤولة عن هذا القبح، لا الفئة الحاكمة وأعوانها، من الشمال والجنوب.
3.تخبط السياسة الاقتصادية ورفع الدعم الحكومي عن المواد الضرورية لحياة الناس وخصخصة القطاع العام وإخضاعه لمقاييس الربحية المادية، للحكم على مدى فشله أو نجاحه، بدلاً من المقياس الاجتماعي، المتمثل بتوفير فرص العمل للمواطنين وتقديم الخدمات العامة المتناسبة مع دخولهم. كل هذا تحت شعار (ضغط الإنفاق الحكومي). في الوقت الذي زاد فيه الإنفاق العبثي، على شراء السيارات، التي تُعطى هبة لمستخدميها من كبار موظفي الدولة، عند تركهم لمواقعهم، وتُشترى سيارات جديدة لمن يخلفهم، وتؤثت المكاتب، كلما تغير مسؤول وخلفه مسؤول آخر، تأثيثاً مكلفاً، يليق بالقادم الجديد. هذا عدا عن بدلات السفر والإنفاق، الذي يبلغ حد السفه، على الاحتفالات السنوية، التي لامعنى لها، وكذا المقاولات والتعهدات المرتبطة بالرشوات والعمولات ...إلخ.
4. الدعاوى المناطقية والمذهبية والعشائرية، التي غذتها تيارات سياسية أخطأت طريقها، فلجأت إلى التوظيف السياسي لمعاناة المواطنين، متوهمة أنها بذلك ستنجح في خلخلة قواعد السلطة وإرباكها، كما غذاها إمعان السلطة في فسادها وافتقارها إلى مشروع وطني، يبدأ ببناء دولة النظام والقانون، الممثلة لمصالح الشعب كله.
تلك هي بعض الحقائق التاريخية والحقائق الراهنة، المتعلقة بالهوية اليمنية الجامعة، والوحدة السياسية والتشطير، أتيت على ذكرها سريعاً، بقدر ما يسمح به المجال، وكل منها يمكن أن يكون موضوعاً قائماً بذاته. فإذا ما أردنا في نهاية هذه العجالة أن نستخلص نتائج مما تقدم، ومما عايشناه، على مدى أكثر من عقدين من عمر الوحدة القائمة، من إخفاقات ومعاناة وخيبات أمل، فلعل من أهم الاستخلاصان:
1. إن اليمن، أرضاً وشعباً، يمن واحد.. أي أن الهوية اليمنية الجامعة هي هوية واحدة. وهذا لا يتعارض مع الحقيقة التاريخية، وهي أن كيانات سياسية كثيرة قد نشأت على الأرض اليمنية، تجاورت وتحالفت وتحاربت وتنافست، دون أن ينكر أي منها يمنيته.. هكذا كان اليمن عبر تاريخه الطويل، وهكذا سيبقى في الحاضر والمستقبل، أرضاً واحدة وشعباً واحداً وهوية يمنية جامعة، كواقع موضوعي، يصعب تجاوزه، وإن تعددت كياناته السياسية، بحسب الظروف والأحوال.
2. إن الوحدة تعني القوة وتَوفُّر إمكانيات بناء القدرة الاقتصادية والدفاعية، وضمان الأمن القومي، والارتفاع إلى مستوى الندية في التعامل مع القوى الفاعلة على المسرح الإقليمي والعالمي. في حين أن التجزئة تعني الضعف والوهن والعجز عن حماية الذات والإحساس الدائم بالدونية والنقص، في عالم تهيمن عليه القوى ذات الكيانات الكبيرة الموحدة، الطاغية بقدراتها العسكرية ومطامعها الاقتصادية ووسائلها المادية والمعنوية المتفوقة.. ومن الطبيعي أن الانحصار في الجزء يقود إلى ضياع الكل والجزء معاً، والتمسك بالكل يصون الكل ويحمي الجزء ويعزز دوره.
3. رغم ما في الوحدة من عناصر القوة، فإنها إذا جلبت معها الظلم والاستبداد والاستئثار ونهب المال العام وعدم المساواة، بين المواطنين جميعهم، وغياب المشروع الوطني، فإنها تفقد بذلك شرعيتها، وتوجب التفكير في بدائل، تحقق مصلحة المواطن، المادية والمعنوية.. لأن الوحدة هي مصلحة، أي مصلحة المواطن.. فإذا لم تُحقق هذه المصلحة، تفقد مبرر وجودها. والبديل الممكن، في ظل الواقع اليمني والعربي والإقليمي والدولي الراهن، هو إعادة بناء دولة الوحدة، بناءً سليماً، يتجاوز كل عيوب المرحلة الماضية ويستبدل نظام الحكم الرئاسي بالنظام البرلماني، وشكل الوحدة الحالي، بالشكل الذي يتوافق عليه اليمنيون، والذي من أهم خصائصه: إنهاء استبداد المركز وانفراده بإدارة الدولة- تحقيق مصالح المواطن اليمني وطموحاته- توفير الشروط اللازمة لتقدم اليمن وتطوره.
4. إذا عجزنا عن إيجاد البديل الوحدوي المناسب، لدولة الوحدة الحالية، بمواصفاتها المعروفة، التي لم تعد مقبولة، فإن العيب سيكون فينا وليس في الوحدة. وإذا بلغ الأمر هذا الحد، وثبت عجز اليمنيين عن التوافق على إعادة بناء دولتهم الواحدة، دولة النظام والقانون والعدل والمساواة، على أسس جديدة، فإن أخشى ما نخشاه أن يكون البديل فوضى عارمة، تعصف بنا جميعاً. وفي هذه الحالة سيكون الخاسر هو اليمن كله، ولن يحظى أي مشروع، شمالي أو جنوبي، بفرصة التحقق. فالقوى المتصارعة على السلطة في الشمال، ستصعد من وتيرة صراعاتها، إلى مستوى العنف المسلح. والمواقف غير الموحدة في الجنوب، بسبب تعدد التيارات وتعدد الخيارات، واستحضار البعض لما مر به الجنوب في تاريخه القريب، كل هذا لا يوحي بالاطمئنان، إلى أن الجنوب سيبقى بمنأى عن دائرة العنف.
5. إن المشاريع المطروحة في الجنوب، سواءً منها المشاريع الهادفة إلى إعادة بناء دولة الوحدة، بناءً جديداً، يكفل إنهاء هيمنة المركز، وفق صيغة اتحادية، من أقاليم متعددة أو من إقليمين (شمالي وجنوبي)، أو حتى إنشاء دولتين يمنيتين (شمالية وجنوبية)، منفصلتين عن بعضهما، كما يطالب البعض، أي العودة إلى ما قبل عام 1990م، لا يمكن أن تتحقق، إذا لم يرتق أصحابها، بوعيهم وسلوكهم، وعلاقاتهم، بعضهم ببعض، وتوحيد مواقفهم، وفهمهم للتاريخ والجغرافيا والهوية الجامعة، وإذا لم يتجاوزوا واقع التشرذم، الذي تعيشه تياراتهم وتجمعاتهم وأطرهم المختلفة، وإذا لم يعيدوا النظر في مواقفهم من إخوانهم المواطنين الشماليين، شركائهم في المعاناة، وإن اختلفت الظروف والمقاييس، ليستقوي كل منهم بالآخر على القوى المعادية للحق والعدل والتطور، المعيقة لبناء الحياة الجديدة. فإذا لم يرتقوا إلى هذا المستوى، فإن دعاواهم، من حيث النتيجة، لن تختلف عن دعاوى من يريدون أن يحافظوا على الوحدة بشكلها الراهن، ويصروا على التمسك بعيوبها ومساوئها وعدم الاعتراف بما ألحقه حكامها باليمنين جميعهم، والجنوبيين منهم بشكل خاص، من أضرار.
وقديماً رأى أحد فلاسفة اليونان، أن الحقيقة تقع في منتصف المسافة، بين نقيضين متطرفين. فهل سيتمكن مؤتمر الحوار الوطني، من اكتشاف موقع الحقيقة ووضع يده عليها، لخير اليمن واليمنين، حاضراً ومستقبلاً، وهل سينجح اليمنيون في رص صفوفهم وتحديد وجهتم، للخروج ببلدهم، مما هي فيه، والوصول بها إلى بر الأمان، وفق الصيغة التي يرتضونها وتخدم مصالحهم جميعاً؟.. أتمنى ذلك، وأدعو الله أن يأخذ بأيدينا إلى سواء السبيل.
د. أحمد قايد الصايدي
اليمن.. الهوية الواحدة والتشطير السياسي 2469