مجلس الوزراء يفوض مكاتب الوزارات في عدن بصلاحيات الوزارات في صنعاء؛ لكن ومع أول ممارسة عملية للسلطة الممنوحة لمحافظة ومؤسسة الكهرباء بعدن حتى رأينا مكرمة الحكومة تتبخر في الهواء؛ بل وأكثر من ذلك, إذ يصير فعلها خطيئة لا تغتفر وتوقيعها جريمة وتهمة تستوجب الوقف والعقاب الفوري لمرتكبها كي لا تصبح بدعة حسنة متبعة في بقية المحافظات الاخرى المتحفزة ليوم كهذا تتخلص فيه من هيمنة وفساد وبيروقراطية المركزية العتيقة.
ليت إلغاء الحكومة لمناقصة توريد الطاقة الاسعافية لمحافظة عدن كان بسبب مخالفة الاتفاقية المبرمة مع شركة "دوم" الأمريكية لقانون المناقصات والمزايدات!, فلو أن المسألة برمتها تتعلق بنزاهة وشفافية وحرص الوزارة والحكومة على تطبيق قانون المزايدات؛ لكانت الحكومة تستحق نياط الكفاءة والنزاهة والاستقامة، ولربما قلنا فيها ما لم يقله الأسبان لخوسيه إزنار أو الماليزيين لمهاتير محمد..
لكننا إزاء عتاولة وأساطين في الفساد والإفساد, لا حكومة أتقياء وأطهار، لصوص بمقدورهم سرقة كحل العين وليس فقط قلب الحقائق وجعلها مجرد أكاذيب وافتراءات وأباطيل.. نعم بمستطاع هؤلاء إيلاج قافلة بعير في خُرم إبرة، فكيف بمناقصة بملايين الدولارات ولا يكون فيها لرجال النهب والفيد والاستئثار ضلع ومنفعة فيها تجعلهم يمررونها دون منغصات أو مثالب قانونية؟.. كيف صارت مناقصتان اثنتان في عدن مخالفة عظيمة وتهمة كبيرة تستدعي جلسة خاصة وقراراً استثنائياً ومعلناً في كافة وسائل الإعلام, فيما تزويد مناطق مثل مأرب والبيضاء وغيرها بطاقة مشتراة وبالتكليف المباشر ودونما مناقصة أو مزايدة أو يحزنون؟.
أعتقد أن المسألة واضحة وشفافة أكثر مما تعتقد الوزارة والحكومة ولجنة المناقصات والهيئة العلياء للرقابة، فما من جهة وما من نظام يمكنه وقف وإلغاء عملية شراء أو مقاولة يقوم بها النافذون الناهبون العابثون!.
كيف لا يعرعر مدير فرع المؤسسة للحكومة ووزرائها وهو الذي اعتقد وقتاً انضباطه والتزامه بالقانون والنظام, ليكتشف في نهاية المطاف أن جل جهده وفعله ووقته ضاع وتبدد وفي لمحة بصر؟, كيف لا يغضب الرجل وينفعل؟, كيف لا يشعر بالقهر والذل والخنوع فيما هو يشاهد كل ما أنجزه لا يساوي كلمة من نافذ أو وشاية من مقاول؟.
أثناء زيارة الرئيس/ عبد ربه منصور لمؤسسة الكهرباء في عدن لم يتفقد محطة الحسوة لتوليد الكهرباء؛ بل قام بتفقد مولدات الطاقة المستأجرة من شركة خاصة، كان مهندسو محطة الدولة ينتظرون زيارة فخامته كي يطلعوه على واقع المحطة ومعاناتها الناتجة عن تقادم عمرها فنياً, ناهيك عن إهمال ممنهج جعلها خارج دائرة الصيانة الفنية المعتادة زمناً طويلاً.. فشراء الطاقة يبدو أنه لم يكتف فقط بإرهاق الخزينة؛ وإنما تسبب أيضاً بإنهاك وتدمير محطات الدولة المنتجة للطاقة، فعلى علاتها وتهالكها كان بالإمكان صيانتها وتحديثها بدلاً من إهمالها عنوة وبطرق وأساليب لا تليق بوزارة وحكومة ودولة تحترم مسئوليتها وواجبها حيال منشآت حيوية مملوكة للدولة.. فأياً كان سوءة هذه المحطات التوليدية, إلا أنها تبقى ملكية عامة والحق العام وفي كافة النظم الاشتراكية أو الرأسمالية أولى بالرعاية والاهتمام والاطلاع والدعم والتطوير، لكن ما قيمة مثل هذا الكلام المثالي إذا كان الحال يشير إلى واقع عبثي ومنحط لا يكترث بغير كم عمولة وكم فائدة شخصية وكم مناقصة غنيمة وكم شركة خاصة!!.
الآن فقط تبدو سوءة مجلس الوزراء جلية في معاناة أهالي محافظة عدن اليومية، الآن فقط تتكشف حقيقة إلغاء الحكومة لاتفاقية توريد طاقة إسعافية قدرها 130ميجاوات، فلا مخالفة ولا يحزنون؛ بل المسألة برمتها مرجعها مراكز قوى نافذة اعتادت التهام كامل الصفقات المربحة وبالأمر المباشر أو بمناقصة شكلية محصورة بشخوص مقربين ونافذين.. فليس هنالك ما هو أسوأ من إلغاء مناقصة تم إقرارها بتفويض من مجلس الوزراء وتم إعلانها مطلع يناير المنصرم وبموجبه تقدمت 23 شركة لشراء وثائقها, ناهيك عن عشر شركات تقدمت بعروضها، ومن ثم فتح مظاريفها يوم 6 فبراير وبحضور اللجنة المكلفة بتسيير المناقصة وممثلي الشركات المتقدمة وأحد أعضاء الهيئة العليا للرقابة على المناقصات والكتلة البرلمانية لمحافظة عدن وبحضور, أيضاً, كل من مدير عام شراء الطاقة ومدير عام التوليد في المؤسسة العامة للكهرباء كممثلين لمدير عام المؤسسة في صنعاء وذلك للتأكد من سلامة سير الإجراءات القانونية..
المهم وكأن ما تم من إجراءات عملية قد استدعى إفاقة لجنة المناقصات من سباتها الطويل لكي تقوم بدورها المؤقت الموكل لها حيال مخالفة أولاد الخالة الملاعين!, فلأول مرة نكتشف أن لدينا عيناً مبصرة لا يفوتها مخالفة في قطاع الكهرباء إلا وفضحتها للعيان؛ كيف لا وهي التي ظنناها وقتاً فاقدة للبصر والبصيرة, فدون مقدمات فاقت فجأة ممسكة ببرهان ودليل المناقصة الخطيئة التي شابها كثير من الأخطاء، لماذا غفوت وكيف أغمضت عينيها تجاه قيام نافذين بتزويد مأرب والبيضاء بطاقة مشتراة ودونما إعلان أو مناقصة؟.. الإجابة بكل تأكيد محيرة.
بودي معرفة كيف ألغى مجلس الوزراء مناقصة توريد 130ميجا لعدن بكلفة 110مليون دولار وكيف وافق على مناقصة بديلة لـ90ميجا وبكلفة 118مليون دولار؟, كيف ألغيت مناقصة إصلاح وتأهيل محطة المنصورة والتي رست على شركة أجنبية بـ14مليون يورو وكيف ذهبت المناقصة لمقاول محلي وبقيمة مضاعفة مائة بالمائة " 28مليون يورو"؟..
نعم أسأل: أين ذهبت قرارات ووعود وتوجيهات الرئاسة والحكومة بشأن توفير الطاقة لعدن وكيف باتت جميعها لعنة على أهل هذه المدينة المنكوبة بموجة قضيض صيفي لم تشهده في تاريخها؟, ألا يوجد فينا ذرة من كبرياء وخجل إزاء مأساة إنسانية يكابدها الأطفال والنساء والكهلة والمرضى في عدن أو سواها من المناطق الساحلية؟, أين هي الـ500ميجا التي وعد بتوفيرها وزير الكهرباء حتى فبراير 2013م ؟.
قلنا مراراً وتكراراً بأن الكهرباء والعصرنة صنوان؛ لكنها بالنسبة لأناس يقطنون قعر الجحيم فإنها تعني الحياة والوجود، وطالما هي كذلك؛ ففقدانها لا يعني غير الموت، ومع كونها تمثل لهؤلاء اكسير حياة فإن ما نشاهده اليوم من عبث وتنكيل وانتهاك للحياة يعد مذبحة جماعية أبشع وأفظع من تلكم الجرائم والفظاعات المقترفة في الحروب والصراعات الطائفية والعرقية والاثنية والأيديولوجية والأهلية.
محمد علي محسن
مذبحة الكهرباء!! 1657