أقسى شيء في الحياة أن تعامل كالغريب, ليس وسط الغرباء, لكن بين أهلك الأقربين, لا أقصد قرابة الرحم, إنما قرابة الدين، وهي أقدس القرابات ثباتا وبقاء ويتأتى هذا البقاء وذلك الثبات من ثبات العقد (الإيمان) الذي هو شريطة المتعاقدين من مقصد القرآن الكريم (إنما المؤمنون إخوة) والسؤال: هل الإيمان شرط الأخوة؟ أم الأخوة شرط الإيمان؟ وبتعبير آخر: هل الأخوة مقياس حساس للإيمان؟.. هنا لا يصلح أبداً العكس, أي لن يكون الإيمان مقياساً للأخوة! وبالتالي تكون الأخوة شرط الإيمان المشروطة كما سنرى بالحب؛ لسبب بسيط وهو أن الأخوة سلوك محسوس يعيش أو يموت على أرض الواقع, فإذا اقتضى الإيمان شرط أخوة المؤمنين؛ فإن هذه الأخيرة تقتضي لواحقها (أركانها) كما اقتضتها سوابقها وهذا ما يتضح جلياً من قول الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه", فقد قفز البيان النبوي عن شرط الأخوة, لأنه أصبح مسلمة من المسلمات إلى أركانها, بل أهم أساس أو قاعدة لها؛ وهو "الحب", فالحب إذا هو دليل الإيمان بل روحه؛ وقلبه الحي النابض؛،فلا إيمان بدون أخوة ولا أخوة بدون حب /إذا الإيمان هو الحب/؛ حب يختزل تحته كل القيم والمعاني النبيلة حب لا يشعر أحدا فيه بالغربة الكئيبة؛ لهذا كان الحب مثل الإيمان لا يتقوله الناس باللسان إنما هو سلوك يعيش ويتحرك في دنيا الناس وفي تعاملاتهم .. وحتى في حركاتهم المتعلقة بالماديات؛ فقد كانت أول صفة لعباد الرحمن سلوكية تقاس وتحس، أداة التوصيل فيها الأقدَام وليس اللسان وأداة التلقي العين المبصرة وليست العين الخادعة (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا).
ولما ارتبط الإيمان بالحب من مقصد قرآني؛ فإنه لا يستطيع أحد أن يدعيه بسهولة, لأن قيمة الحب أدعى للدليل المحسوس من القيمة الإيمانية، (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) فالحب لا يعيش من طرف واحد ولا يجدي ولا يعطي؛ لأن الطرف الآخر مشحون بحب الذاتية الذي يمقت الإنسانية وما فوقها من قيم إيمانية، وهذا الشرط نلمسه في أسلوب الشرط؛ حيث شرط حقيقة الحب بالتبادل بين الأطراف المتحابة، ولا يحصل هذا التبادل, إلا إذا حصل من الطرفين تنازل؛ وهذا الأخير يترتب على حصوله ذوبان ذاتية الإنسان؛ فبتراجعها تكتمل المعادلة وتصل إلى حل صائب ويكون الناتج مثمرا؛ لكن عندما تتسيد الأنانية وتتسلط يحصل الاصطدام ويذوب مقابل الذاتية الانسجام بين أقارب الدين؛ لأن غاية الذاتية حينها لا تعد قاصمة لظهر الإنسانية؛ بل نقيضة ومناقضة للحقيقة الإيمانية؛ فإذا كان معطى الإيمان في النهاية حناناً؛ فإن معطى الذاتية يصير الإنسان قربان للشيطان؛ لهذا كانت القرابة الإيمانية هي أقدس القرابات على الإطلاق؛ لأنها أخوة قائمة على شريطة الحب وهي قرابة تتناقض وتتنافر مع الذاتية المقيتة التي تختزل الحب فتجعله أو تختزله في طرف واحد هو حب الذات أو "الأنا" (أنا خير منه) مع أن ميزان الخيرية وضدها بيد الله الذي يعلم السر وأخفى؛ وبمجرد أن يتفوه الإنسان بمفردة (أنا) مادحا وفي سياق لا يقتضي منه ذلك؛ فإنه حينها يعاني من مرض عضال ينسي الأمة تاريخ النضال ويجعلها عيش الفشل بسبب التنازع والجدال (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم), فالحب يدعونا إلى التسامح ومن ثم الألفة والقوة والذاتية أنما تزيد الهوة.
وعليه أستطيع القول باستحالة اجتماع الذاتية والحب وهذا القول يقتضي استحالة اجتماع الذاتية والإيمان في قلب إنسان؛ لأن الحب غطاء واقي للإيمان يحفظ حقيقته من أن تهان أو تصيبه من الذاتية سلطان أو أدران؛ لهذا أخوة الإيمان لا تستوي إلا بالتخلي عن الذاتية؛ لان خلاصتها حب وخلاصة الحب تنازل وللمنافع تبادل؛ والذاتية خلاصتها أنانية وخلاصة الأنانية تنافر ومن ثم تخاذل ومن ثم فشل. وقيم الإيمان والحب والذاتية والأنانية قد تنخلع على الأفراد والجماعات، والتنظيمات والأحزاب، وكل الطبقات، فغالبا ناتج الحب (إنسانية على مستوى العالم ككل، وإسلامية على مستوى العالم الإسلامي، ويمانية على مستوى الوطن أو اليمن) ودائماً ناتج الذاتية (عنصرية على مستوى العالم، وطائفية على مستوى الوطن الإسلامي، وقطرية على مستوى الوطن العربي، وأسرية/ حزبية/ طبقية ... الخ على مستوى الوطن اليمني).
فالذاتية تدمر الإنسانية و(الأيديولوجية) في التركيبة الاجتماعية (الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والعالم) وفي التركيبة السياسية (الأحزاب والتنظيمات والجماعات سواء كانت إسلامية أم قومية لبرالية أو أين كانت توجهاتها فالذاتية قرينة الشيطانية لا تعترف بأي حدود أو قيود فقيدها المصلحة المادية والمادية ولا تؤمن بالمعنويات والمجردات وأولها الحب القائم على قاعدة الإيمان والذي ينظر أو يعامل جميع البشر على شتى اختلافاتهم تحت قاعدة إنسان .. له حقوق متساوية وعليه واجبات متساوية .. حتى في ميزان الإسلام جعل التمايز تحت قيمة واحدة هي (التقوى) والذي يملك قياس هذه القيمة أيضاً هو الله وحده لهذا كان جزاؤها أخروياً, لأن الميزان ساعتها بيد ملك الآخرة ولا يمتلكه أحد في الدنيا لا ملك ولا رئيس ولا أمير, فلا أحد يستطيع أن يعطي صك الغفران ألا خالقنا المنان فلم دائماً يتدخل الإنسان فيعطي ويمنع ويعدل ويبخس ويحب ويكره على مقاييس هي من اختراع أو اجتهاد ضعفه.
د.حسن شمسان
الذاتية قاصمة الإنسان.. ونقيضة الإيمان! 1310