" إن المشكلة الأساسية لسكان الجنوب العربي هي أنهم لم يتحدوا قط تحت لواء دولة واحدة ونادراً جداً ما قدموا ولاءهم لنفس السيد أو الآمر " ديفيد ليدجر مؤلف كتاب " الرمال المتحركة .. البريطانيون في الجنوب العربي " ترجمة د . منال سالم حلبوب ، كما وهنالك قولة صاحبها بريجادير لنت ووردت في كتاب ( الصخور الجرداء ) : " إن من يدعي فهم سياسة الجنوب العربي قد أعطي بشكل محزن معلومات غير صحيحة " .
عند قراءتي للرمال المتحركة أحسست وكأن كاتبه الضابط السياسي الانكليزي الذي عمل في عدن إبان سنوات الثورة 63- 67م يكتب عن واقع نعيشه اليوم وبعيد ثلاثة عقود كاملة على نشر ذكرياته سنة 1983م وخمسون عاما على مجيئه ومستهل قصته .
نعم لقد انتابني الفزع على الجنوب وأهله الذين ينافحون الآن وباستماته وعناد لا يلين من أجل التحرر والاستقلال الثاني ، لكأن ما سطره من أحداث تاريخية شهدتها عدن والمحميات الغربية والشرقية وقتئذ ليس إلا تواريخ وأفعال مازالت ماثلة في الوقت الحاضر .
كأن ما حدث في ولاية عدن وجوارها في السلطنات والمشيخات والامارات في الخمسينات والستينات من القرن العشرين لم يكن سوى صورة ناطقة لأحداث تجري فصولها الآن في محافظة عدن وأخواتها الخمس اللائي خضن ويخضن جميعاً معركة مجيدة لا تبدو أنها ستتوقف على المدى القريب .
يقول كارل كارس بان التاريخ يعيد نفسه إما على شاكلة حدث وإما بصورة مأساوية هزلية ، مقاربة الصورة المأساوية الحاصلة في مساحة الجنوب في الزمن الحاضر بصورة ما حدث قبل نصف قرن بكل تأكيد تمنحنا صورة مخيفة ومحزنة لواقع لم يتبدل أو يتحرك خطوة مثلما ظننا وقتاً طويلاً .
فكل ما نشاهده الآن من عنفوان ثوري عنيف وغير مدرك بالنتائج الكارثية التالية لكفاح الجنوبيين في سبيل استعادة دولتهم وتقرير مصيرهم ؛ كأنه نسخة مكررة من عنفوان تحرري خاضه ثوار اكتوبر في الأمس البعيد ، فهؤلاء وهم في غمرة حماستهم الثورية غفلوا حقيقة ان الثورات تقترن بماهية النتائج المحققة للإنسان ؛ لا بقدرة هذه الثورات على إسقاط نظام عائلي استبدادي فاسد أو رحيل مستعمر غاصب .
نعم ما أروع أن يموت الإنسان شهيداً في معركة مشرفة غايتها تحرر وطنه من الاستعمار الغاشم ومن الحكام المستبدين الظلمة ؛ لكن ما هو مهم أن يعيش الإنسان من اجل وطنه وفي ان تكون تضحيته لأجل حياة حرة كريمة ومستقرة .
يا إلهي ما الذي تغير ؛ كي اتمكن من التمييز والفصل ما بين العهد القديم ومنتهاه البائس والمأساوي، وبين العهد الجديد الذي لا يوجد فيه جديد يؤكد بثمة فارق جوهري ! حرابة وعصابات تقطع، وسرقات ، ومظاهر خادعة مضللة ، ورصاص ، ودم قاني نازف ، وأفكار راديكالية جامحة متطرفة، وفوضى مهينة للتفكير الخلاق ومؤذية للحواس، ورعاع جهلة، ورصاص، وثوار يكفي رؤية فعلهم او سماع خطبهم لتشعر بالهلع والخوف على روحك وحياتك.
أسأل وبصدق وتجرد : ما الفارق بين أباء وأجداد أخرجوا الانكليز سالمون غانمون دونما حتى دفع ما سبق والتزموا به للدولة المستقلة ، وبين أحفاد مازالوا يخوضون معركة الخلاص من توحد مختل وبائس صاغه روادهم وقادتهم ، وأفرغه من مضامينه مزايدتهم وشططهم وغبائهم السياسي الذي لم يعر لحظة لحكمة ومنطق أو يستسغ يوماً لرأي مغاير؟.
ما بين فكرة ثورية نقية من دنس عملاء الاستعمار ، ومن رفاق الكفاح المشترك ، وبين فكرة نضالية لتطهير النضال الجنوبي السلمي من عملاء النظام ، ومن رفاق النضال ، ومن كل فكرة لا يؤمن أصحابها بفكرة استعادة الدولة وفك الارتباط ؟, لماذا على الواحد منا الكلام عن أخطاء جسيمة رافقت مسيرة ثورة الأمس إذا كان واقع ثورة اليوم طافحاً بذات الممارسات والشعارات والأفعال الخاطئة القاتلة؟ .
في الأمس كان الأصنج و باسندوه ومكاوي ومحمد علي هيثم وعلي بن علي هادي وعشال وسبعه وميسري – قبل ان تنتقل عدوى التصفيات إلى رفاق التنظيم الواحد: قحطان وعبداللطيف والضالعي والبيشي وسالمين وعبدالفتاح وعلي ناصر وعلي عنتر والقائمة لا تنتهي – قرابين مزهقه على قارعة الاستئثار في الحكم ، كما وفي الأمس كانت الرابطة وجبهة التحرير وتنظيمها الشعبي والجبهة المتحدة وسلاطين وأمراء ومشايخ حكومة الاتحاد فهذه المسميات ظلت لحقبة زمنية وصمة عار وخيانة تستوجب القتل والنفي والتشهير القادح لإصحابها .
في الوقت الحاضر انظر في المشهد فلا أرى أننا بالفعل قد استفدنا من كل تلكم الأخطاء الفظيعة التي ننقدها ونحملها تبعات مأساة الحاضر ، فيكفي أن تسمع جملة الممثل الشرعي والوحيد لشعب الجنوب ؛ كي تدرك باننا اسرى لذات الخطاب الشمولي الانفعالي الذي يحسب له إضاعة الاستقلال المجيد وإحالته إلى مجرد ذكرى سنوية زاخرة بالشعارات الثورية الصاخبة المستهلكة ببذخ وجود لا نظير له .
الجنوب الثائر الهادر على الاستعمار كان من تجلياته المريرة والمؤلمة طغيان الصوت الواحد العابث ، النزق ، المتعجرف، المزايد ، المستهتر ، الرافض لفكرة التنوع والتعدد ولو تحت سقف الجبهة او التنظيم الواحد ، النتيجة بكل تأكيد وخيمة ومأساوية على دولة الجنوب وعلى مجتمعه المنهك المثقل بمشكلات اقتصادية وسياسية ونفسية ومعنوية ونخبوية وتنموية وخدماتية
الجنوب الثائر الهادر على توحد سياسي لم يعد له وجود في وجدان وعقول وبطون وواقع حياتي؛ كأنه صورة طبق الأصل من مرحلة ثورية وكفاحية أودت بنا جميعا إلى هذه الحالة المختلة غير عادلة، فلا شيء تبدل سوى أوجه وأسماء وتواريخ ! غير ذلك فكل ما نشاهده حولنا ليس إلا شطط مراهقين ، وعنفوان مجنون مهلك لطالما أودى بنا إلى هذا المآل المحزن .
ختاماً يجب القول بضرورة قراءة التاريخ بموضوعية وتجرد كي لا نجد أنفسنا نعيش أحداثه وتواريخه المأساوية مرة ثانية وثالثة وكي نعبر بسلام وطمأنينة إلى المستقبل ، نعم ؛ فمن لا يكترث أو يعتبر بماضيه سيجد ذاته ضحية لجموح وتطرف الموحدين المجزأين , أسيراً لهيمنة وطغيان البندقية والبازوكا , قرباناً لجنوب آخر مستهلة إقصاء وتهميش وعبث وإرهاب ورفض لكل فكرة مغايرة تؤمن بالحوار أو الفدرلة أو سواها من الأفكار والرؤى المطروحة اليوم ..
محمد علي محسن
ما أشبه الليلة بالبارحة !! 1805