التنوع في مظاهر الحياة المادية, من حيث الوظيفية هو أحد أنواع الاختلاف في جانبه المعنوي, من حيث البعد الوظيفي الكوني, أي أن التنوع والاختلاف في جانبه المادي هو أحد أهم أساسات العمران واستمرار الحياة واكتمال بنائها مادياً وهذا التنوع في الظواهر الحياتية المادية الوظيفية نجده أو نقرأه في الكائنات الحية (العاقلة وغير العاقلة), كما نجده أو نقرأه في الجمادات كالجبال ووظيفة التثبيت للأرض والسهول والهضاب ووظيفة الأنبات.. فالحياة إذاً قائمة على هذا التنوع على المستويين المادي والمعنوي..
وقد أشار الشيخ محمد سيف- حفظه الله- إلى بعض نماذج من التنوع في جانبه المعنوي في الإنسانية؛ كاختلاف الثقافات والإيديولوجيات وحتى الاختلاف في الأيديولوجية الواحدة كالدين الإسلامي مثلا إنما هو اختلاف الغرض منه التيسير لاستمرار المسير وتكامل الحياة وليس تنافرها ويدخل في ذلك حتى اختلاف القراءات وتنوعها في القرآن الكريم.
وطرح الأستاذ محمد سيف لهذا الجانب المعنوي في الاختلاف لفتني إلى قراءة وظيفية الاختلاف في العمران والبناء في جانبه المادي. لهذا سأكتفي هنا بضرب أمثلة للاختلاف والتنوع لكن في جانبه المادي الاجتماعي - تحديدا جانبيه الفئوي والاقتصادي- دعوني أقول ابتداء إن جودة أي بناء وصموده وثباته يرجع كل ذلك إلى التنوع والاختلاف في الأيدي المنفذة له وهو ما يسمى بالتخصصات المختلفة أو المتنوعة؛ فعندما ينفذ البناء كل التخصصات الخاصة به يسمى "بناء" وإلا فإنه يسمى "جدر" أو جدار؛ إذا بناه أو نفذه تخصص واحد. والفارق كبير بين البناء والجدر، حيث تناول القرآن الكريم الأول في سياقات الحكمة والإحكام والقوة والثبات والقواعد، لهذا لما أراد الله عز وجل أن يصور لنا دقة إحكام ومكر وقوة المتآمرين مثله بالبنيان؛ (فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم) ومن ذلك قول الله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص), ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان" فكل هذه نصوص تدل على قوة وحكمة ونظام البناء وأن هذا يرجع إلى التنوع والاختلاف -كما سنرى؛ في حين تُنُووِل الثاني /الجدر/في سياق الضعف والهدم، قال تعالى: (فرأى جداراً يريد أن ينقض فأقامه) ومنه قوله تعالى عن اليهود الجبناء: (لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر).. صحيح أن جدر إسرائيل الحديثة تخضع لمقاييس الجودة الهندسية, لكن الله عز وجل بين حقيقة اليهود المضمونية وإنها في الدرك الأسفل من الجبن والخور، فعبر بالجدر الضعيفة تماشيا مع حقيقة خوف وخور اليهود على مر التاريخ.
وعوداً على بدء فإن ضعف الجدار أو الجدر ماديا يأتي من انفرادية الباني؛ أو ضيق التخصصات لكن البناء يأخذ ذلك المعنى القوي من أن كل جزء فيه يأخذ مكانه المناسب وهذا يحتم وجود التخصصات؛ فعلى مستوى القواعد يجب أن تكون متناسبة مع نوع التربة وهذا يقرره المهندس، ثم يأتي دور النجار الحاذق والحداد فينفذ كل منهما إملاءات المهندس فيضع القاعدة المناسبة في المكان المناسب لها من حيث الحجم، ثم على مستوى البناء يأتي دور البناء فيضع اللبنات- مثلاً- مراعياً أن كل لبنة فيه لا بد أن تأخذ مكانها المناسب أيضاً من حيث وظيفة التثبيت والذوق أيضاً؛ وهكذا دور الحداد والكهربائي والدهان ... الخ فكلما زاد حجم التنوعات كلما زادت دقة البناء وجودته إيجاباً، من حيث الشكل والمضمون وكلما ضاقت الاختصاصات والتنوعات؛ كلما انعكس ذلك الضيق في التنوع على الشكل والمضمون والجودة سلبا.. الخ.. إذاً فالفرق بين البناء والجدار كالفرق بين قيمة العقل الجمعي المفكر المثمر المنتج والذاتية المفلسة.
ثم تأمل التنوع والاختلاف في الجانب الاقتصادي؛ إذ لو خلق الله كل الناس أغنياء لما استقامة الحياة؛ لهذا وحتى تستقيم الحياة وتتكامل لا بد من التنوع والتفضيل في الرزق الذي من شأنه إيجاد الاغنياء والفقراء؛ حتى يحصل ذلك التسخير, لكن الجهل بوظيفة هذا الاختلاف الرباني في طبقة الأغنياء والفقراء من قبل البعض المحنط تحول التسخير إلى سخرية.. مثلما تحول الاختلاف في الشعوب والقبائل من قصد التعارف والتآلف إلى عنصرية مقيتة وتناحر؛ والأصل عندما يقرأ البشر قوله تعالى (وفضلنا بعضهم على بعض في الرزق ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) بوعي وموضوعية أن نلحظ ذوبان الذاتية تماماً ؛ حيث لو تفكر الغني أن ذلك الفقير إنما وجد هكذا فقيرا لخدمته وليقضي منافعه تحت "قاعدة التسخير" ولولا هذه القاعدة لصار الغني هو من يخدم نفسه ويقوم بكل الحرف والمهن؛ فالفقر والفقراء إذا ظاهرة ناموسية يجب أن تقرأ بحجمها الطبيعي والموضوعي فهي في غاية الأهمية للبناء وبدونها تعوج الحياة ولا تستقيم؛،لأن حينها -مثلا- قد يضطر "الطبيب" أن يتأخر عن المريض ليقضي حوائجه المنزلية لعدم وجود ذلك الفقير الذي سيقوم بدوره في ظل قاعدة التسخير الوظيفي وليس العنصري أو الطبقي وحينها قد يموت المريض.. ومثله الحياة في جانبيها المادي والمعنوي. ولو فهم الناس وظيفة التنوع والاختلاف في المجال الاقتصادي لما قامت جمعيات خيرية تقوم بوظيفة التكامل الاجتماعي وحظ الأغنياء على الاهتمام بالفقراء, بل لفهموا ذلك بذواتهم, لكن لما لم يدركوا أو لما تغابوا كان كل شيء سيئاً, أول سبب رئيسي له هو الجهل أو التجاهل والتخلف والأمية الفقهية لهذا التنوع في المجال الاقتصادي..
أما التنوع والاختلاف في الجانب الفئوي كذلك هو عامل استقامة الحياة واستمرارها, فلو كان كل البشر أساتذة في الجامعات لم تصلح الحياة إذا لم يوجد فلاح يحرث الأرض ولكان كل الاساتذة تركوا مهمة التنوير وانشغلوا بمهمة التنور واشتغلوا بالفلاحة.. الأمثلة كثيرة والاكتفاء ببعضها يكفي للعين البصيرة, فالحياة قائمة على فكرة الاختلاف في سقيها المادي والمعنوي.