كلٌ يفتي على هواه، ويبيح المسلم دم المسلم، وينتمي للضيق بدلاً من الأمة، ويعالج مشكلة تخصه بدلا من مشاكل المسلمين، ويتعامل مع قضيته وأحقيته في الخلافة أو الحكم، بدلا من قضايا وطن وأمور مسلمين، وينطلق نار حقده على أخيه ويراه قاتلاً يستحق القتل دونما بيّنة أو على هدى وصراط مستقيم، وإنما رغبة في الانتقام، في الوصول إلى تأصيل الكراهية، في جعل الحقد مشاعا, ويصير الغلو والتطرف ليس حكرا على جماعة دون أخرى، بل مشاعا بين القوى التي تحتكر الحقيقة وتدعيها وتنسبها لنفسها دون غيرها.
وبهكذا رؤية ضيقة يغدو الوطن هو الخاسر الأكبر، ويضيق بأبنائه الذين تحاصرهم الفتاوى من كل مكان، وتشهر في وجوههم القتل لمجرد أبسط مخالفة، ولهوى يعيشه المفتي، ونزوع في التفرد والسيطرة، ويصير الكل مستهدفا من قبل الكل، وهنا ينعدم المستقبل بانعدام الأمان، بالتوجس والريبة من الآخر، بجعله عدوا يقف حائلاً أمام الرغبات والأهواء ويعرقل مشروع نظام خاص بفرد أو طائفة أو قبيلة أو حزب. . ..الخ.
هكذا لا نجد في إصدار الفتاوى ما يشكل نقلة نوعية في الحياة، ويؤسس نظام، ويخلق أجواء مودة، لأنها مبنية على رغبات ومكايدات وانتقام من الآخر ومحاولة لجر البلاد للفتن والقهر والظلم والاستبداد، وكل له فأته التي تناصره، وله مثقفوه الذين ينسلخون عن وطن وحياة وفرح ويلتحقون في ركاب المفتي، يعززون طروحاته ويلقون بالاً لما يطلقه عنوة من أجل مشروعه الصغير ويقدمون أنفسهم طوع بنانه وإمرته.
هكذا تغدو الحياة إرهاقا حقيقيا للإنسان، حين يغيب التعايش، ويغيب العقل ونداء الضمير، ويتبع كل فرد هواه، وينعق بما هو شؤم من تفرقة وتشذرم وانقسام، ويصير كل له فريقه الذي يحاجج دونما بصيرة وإنما عن مكبوت ورغبات دفينة تعشق السيطرة والاستعلاء.
وهنا يغدو كل شيء قابلا للتضاد حتى المأكل والملبس وحتى الأعياد وصوم رمضان والعبادات كالصوم والصلاة, وهي أمور لو أدركنا معناها بتقوى القلوب لما وقع شجار أو خلاف أو إتباع ظن وهوى وانتظار القرار للتعامل مع هذه أو تلك المسألة من خارج الحدود، ولربما نجد في صوم رمضان وهو على الأبواب من يسير نحو خلق مناخات فرقة وانقسام، أقول: ربما بفعل تجاذب أطراف خارجية للقرار السياسي والديني على السواء، وقد حدث في أكثر من مناسبة أن انقسم اليمنيون في العيد فالبعض صام مع طهران بيوم إضافي والبعض الآخر صام وفقا لفتوى دياره الإسلامية لموطنه، وتلك كانت بادرة لا تسر على الإطلاق فمن يومها تشكلت مرجعيات في (قم) وكان كل فريق ينظر للآخر بخصومة شديدة، وسرى في النفس اليمنية بذور شقاق وخلاف أراها اليوم تتسع وتكبر اكثر من ذي قبل، ويصير لها مفتون بالجهاد والانتقام والقتل. على من؟ وضد من؟ لانعرف سوى أن دم يماني قد ـ أبيح، وصار قتل الآخر فرض عين، وإنها لفتوى تدمي القلب حين نلهب مشاعر العامة ونحمسهم ونخلق عداوات بين وطن واحد وشعب واحد ويصير القتل مباحا حد الذهول، وهو أمر طالما أدناه ووقفنا ضده من كل من يدعو لفتوى تبيح دم المسلم، وتنظر إليه غنيمة يجوز الاستيلاء عليها وحيازتها عنوة.
إن هكذا فتاوى ليست خيره، وهي إنما تشرعن للدم، وتنتصر للرصاص، وتريد الفوضى وتنتمي للدمار، وهو أمر لا يمكن بأي حال من الأحوال القبول به، وعلينا جميعا أن ندينه كونه لا يقدم نفعا ولا يحقق مصلحة ولا يقوي شوكة الإسلام، قدر ما يبحث عن معادلة موت يطل من خلالها قويا بعد إصابة المجتمع بالتفكك والتناحر والانقسام ليبرز الظلام سيد المرحلة..
وهنا فقط لابد من القول: إن الوطن قد أرهقته حمولات الفرقة والانقسام والكراهية التي خلقها ارباب السياسة ومن تولى الأمر سابقا، فلا يعقل أن يزداد الإثم إثما بفتاوى تبيح الدم وتدعو للقتل والدمار وتحث الخطى إلى الفتنة وهي نائمة وباسم الله وباسم الغيرة على الإسلام والمسلمين وباسم احتكار الحقيقة وجعلها مقتصرة على طرف دون سواه, فمثل هذا إنما يفاقم العداء ويصير بؤسا بين أبناء الوطن حين يعزز السياسي الغير مسئول أو السياسي المتعصب ذلك المفتي الديني المتعصب أيضا، لتتحول الكراهية إلى مرخص لها سياسيا ودينيا، وكل ذلك من أجل رغبات ذاتية، وادعاء سلطة، واحتكار حقيقة، وانتقام للماضي بمصادرة المستقبل ومحاصرته وإبقائه غير قابل للتكون، وهنا فقط تغدو الحياة توتر وريبة وتناقض ويصير الخوف أيديولوجيا القادم حين لا شيء يقبل المهادنة أو الاعتراف بحقوق المواطنة المتساوية وحقه في العيش وتكافؤ الفرص والنظر إليه أنه غير جدير بالحرية التي وهبها الله له، وأن عليه السمع والطاعة لمن ليس له من الحضور غير الفتوى وليس له من القدرة والكفاءة والتميز الإبداعي غير الاحتماء بالماضي وبانتقائية عجيبة يأخذ منه ما يتسق مع الرغبة ومع الطموح الذاتي وإلغاء التنوع البشري كله، ليبقى الآخر مجرد تابع خانع.
وإنه لأمر يؤسف له أن يحث الغرب الخطى نحو العولمة ويعمل اليوم لتجانس كوكبي البقاء فيه للأكثر إبداعا وتفوقا في هذا المجال في حين ترتد أمة القرآن إلى عصر الطغيان والفتاوى والقهر والمصادرة للحقوق والحريات والحاق الأذى بالوطن.
وإذاً ما الذي سيقوله الغرب على أمة كهذه؟. تنقسم وتتفرق أهواء ورغبات ولا تعترف بالتنوع والتمايز الإبداعي وتجحف في حق نفسها وتنطلق في تعاملاتها من مواقف مسبقة ضد الآخر. ما للذي ستكون عليه حين يصير العالم مبنيا على التفوق العلمي وعلى القوة الاقتصادية وعلى تدفق هائل للمعلوماتية ؟في حين هناك من يبقى أسير الماضي بتعصب أعمى وروح انتقامية لا تعترف بالمستقبل مالم تكن مرجعيته الذات بمشروعها الصغير. أن أمة كهذه تدخل في متاهات الفرقة وتتخلى عن أسباب الحضارة والعلم وعما حث عليه الله تعالى في كتابه الكريم من تعاون وتكافل وإعمال للعقل والأخذ بالعلم. هي بلا شك أمة موت وذل وخضوع واستكانة وذات مشروع صغير. . .فمتى يستيقظ من في قلبه إيمان بالله وحقوق الإنسان ؟أم على قلوب أقفالها ؟؟؟؟؟