(كنتم خير أمة أخرجت للناس, تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).. كان المسجل يطلق أصواتاً عالية بالغناء في الحافلة.. الوقت منتصف النهار.. الجو صائف, حار.. تململ الرجل المسن وتلكأ لدقائق قبل أن يتجرأ على إنكار هذا الأمر, قال بأدب جم: أخفض الصوت يا بني, واذكر الله.. ويا لهول ما حدث!.. فتح ذلك السائق, وشاب من أترابه يجلس بجواره, فوهة مدافع على الرجل: ماذا تقصد, وماذا تظن نفسك؟, وأنتم "المطاوعة" ما بتسمعوش أغاني يعني و.. فسكت الرجل ولم يجد ما يجيبهم به.. فانبرى ولده الشاب الذي يجلس بجواره قائلاً: اسكتوا الضجيج, نحن ركاب ولنا الحق في طلب الهدوء.. فأخفض السائق الصوت, وهو في حالة حنق وغضب غير مبرر!..
ولف الحافلة بعض الهدوء.. تأملت السماء وهي تمطر غباراً, فسدت أجواء تعز, ترى لماذا أصبح الصيف فيها لا يطاق؟, وأين هي الأمطار يا مدينة المطر؟.. وعدت للموقف: لماذا أظهر الشابان روح العداء لرجل تبدو عليه علامات الصلاح؟.. وفتح أمام عيني قلبي شريط طويل لمواقف عديدة مشابهة مرت بي في السنة الأخيرة, واسترجعت ألواناً من المحن التي نعانيها في زماننا هذا, وعيشنا النكد وتسلط أهل الشرور على أوطاننا داخلياً وخارجياً.. ونزاع وشقاق ونفاق.. نحن في فقر, وتجويع, وذلة, وعنت.. ما يعلم بسوء حال هذا الشعب سوى الله جل وعلا.. وحتى لا ندري ما مصير هذا الوطن, وإلى أين نحن ماضون؟!..
أزعجني الموقف, وانطلق ضجيج لحوار داخلي في أعماقي: هل يراد كتم أصوات إنكار المنكر والأمر بالمعروف؟, ولمصلحة من تم تشويه العديد من رموز الدين بالزج بهم في أتون الربيع العربي وتناحر الأحزاب, وإغراقهم في أمواج الثورات الغاضبة وإحراق بعضهم في لعبة سياسية مقيتة؟.. وإن نحن توقفنا عن الأمر بالمعروف وإنكار المنكر, وتراجع أهل الصلاح من الناس البسطاء المخلصين متلفحين وشاحات الخجل, وصار المجتمع يتسم بصفات من حل عليهم غضب الله من الأمم السابقة: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) وفر العلماء الربانيون المتجردون بدينهم من معمعة الفتن, وتركوا الأمة تنحدر في مهاوي الردى, فكيف سننهض من كبوتنا؟, و كيف سنستعيد مجداً صنعناه عندما كنا متمسكين بمقومات خيريتنا؟, بل كيف سننقذ رقابنا من ذل التبعية والارتهان؟, كيف سينشأ الجيل القادم؟, أين هم القدوات؟..
ووصلت للمنزل ولم ينقطع بعد حواري الداخلي, ولم يتوقف سيل الأسئلة!.
نبيلة الوليدي
بعد الربيع...خفتت أصوات! 1492