نقل السلطة سلمياً إلى ولي عهده(تميم بن حمد) بقناعة ودونما ضجيج، أراد أن يتحمل المسؤولية جيل الحاضر من أجل المستقبل، أدرك بعمق أن لكل زمن رجاله وأن نداء التغيير يبدأ من تمثله، من ترجمته عملاً، من فهم المعطى وممكنات التحول.. لذلك كان الشيح/حمد بن خليفة أسبق أهل الجزيرة والخليج وحتى الوطن العربي في تمكين السلطة لولي العهد حسب المعمول به في دولة قطر الشقيقة, وكان هذا الانتقال الأنيق دلالة وعي متقدم في التعامل الحضاري مع موجبات التحول، حتى لا يظن أحد أن قطر انحازت للربيع العربي من باب المكايدة أو الإيقاع بين الوطن وأهله, وإنما كان انحيازاً عن قناعة بأهمية التغيير، وإثراء التنوع، وإخصاب المجتمع العربي بما يليق به من ديمقراطية قد تكون صعبة وبثمن غالٍ, ولكنها الضرورة في زمن يتسم بالسرعة في الإنجاز، وبالتغير في كل لحظة، وبالقفزات العلمية والتكنولوجية التي تقدم ثقافة الجديد بقوة ولا ترحم المتخاذل أو المتقوقع على ذاته أومن يفكر من خلال الماضي.
وإذاً نقل السلطة عبر التداول السلمي لها وفق ضوابطها المحددة، هو الأمر الذي رعاه الشيخ/حمد بن خليفة، وعمل من أجله وأتقن معنى منح الجديد فرصة مواصلة السير إلى الأمام، وليس ترك السلطة هنا بسيطاً لدولة ثرية وقوية في حضورها الدولي وسياستها في المنطقة وقدرتها على التفاعل مع دول المنطقة، كما ليس من السهل وفقاً لمعايير السلطات العربية التنحي عن مجد وقوة وثروة، لكنه الوقار والإيمان بالتغيير الذي عجز عنه الرؤساء العرب حتى قامت قيامتهم وصاروا مجرد تنابلة لا يقدرون على التبرير أنهم تركوا السلطة سلمياً وهناك دماء سفكت وجراحات نزفت والمتبقي من المتهالكين عليها بشار الأسد في سوريا الذي يظن نفسه الوطن كله والباقي هم الجحيم ويتهالك في البقاء على سلطة دمرت وطناً ومنجزات وقتلت ورملت وأسرت وأرهقت الجماهير, ناهيك عن كونها بلداً فقيراً يعتمد على مساعدات طهران وروسيا ومن يجدون فيه نظاماً يشبع رغباتهم في السيطرة والاستعلاء.
وإذاً الفارق شاسع جداً بين الشيخ/حمد بن خليفة ومن يدعون الديمقراطية بقبضة حديدية ونزوع دموي ويجرمون في حق شعوبهم ويمارسون أبشع الجرائم من أجل كرسي لا يقدر على عمل شيء غير الجريمة والفساد والنهب, في حين قدم الشيخ حمد لقطر مسيرة حياة مظفرة وأعطى بلا حدود وجعل التغيير الممنهج ركيزة أساسية في مسيرة حكمه, أكان ذلك في مجال التنمية أو في مجال الإعلام عبر قناة الجزيرة التي فتحت أفقاً واسعاً لانطلاق الكلمة المنحازة للحقيقة والفعل الخلاق وللجماهير العريضة ولتوقها في الخلاص من الضواري السلطات الغشومة.. وسواء اتفقنا مع قناة الجزيرة أم اختلفنا معها، فهي في نهاية المطاف كانت وما تزال فتحاً حقيقياً لإعلام حر وكلمة فاعلة ذات تأثير جماهيري واسع بشهادة كل الباحثين والدارسين بأنها القناة الأولى في المشاهدة والقناة الأولى في الانتقال بالإعلام من رسالة تمجيد وتعبد وزيف وضلال للسلطان إلى رسالة تعبر عن أحداث وتنقل وقائع دونما زيف وتقدم برامج تخص القيمة العليا للإنسان الحرية وكانت في هذا المجال الدافع القوي والخلاق لقنوات حاولت السير عليها وانتهجت إلى حد ما خطوات الجزيرة، وجعلت من الإعلام الرسمي السلطوي يتضاءل في حجمه, بل ويفقد تأثيره وأثره أمام إعلام الجزيرة القوي والغني بالمعلومات والقدرات التحليلية.. هذا أمر لا ينكره إلا جاحد.
وإذاً فعل التغيير لم يبدأ من اليوم بتخلي الشيخ/حمد بن خليفة عن حكم دولة قطر، وإنما هو مسيرة كبيرة وعطاء راسخ وتجربة تأسست ونمت وترعرعت حتى صارت تقدم نفسها برؤية رحبة لا تقبل التدجيل على المواطن ولا التزييف لعقله ولم يكن تمكين ولي العهد/ تميم بن حمد، لقيادة بلد كقطر لديه ثروة كبيرة وفخامة, كما لديه مسؤولية جسيمة وتعهدات دولية بالأمر الهين، على الأقل لدى المتشبثين بالسلطة ومن يريدون البقاء فيها إلى أرذل العمر وينسون أجيال ويحجبون حياة ومستقبل وتطلعات.. نقول: لم يكن من السهولة بمكان لولا المبدئية والقناعات الحقيقية بأهمية التداول السلمي للسلطة بمعانيها السامية والراقية, ومهما ذهب البعض من الذين مسهم ضر التغيير إلى تفسيرات شتى تحاول النيل من أرقى تجربة شهدتها الأمة العربية وتحاول تقديم تفسيرات واهية عن انقلاب في السلطة وعن مكايدات في قطر وعن تغيير صوري، ومهما تداعوا بأكاذيبهم، فإنهم سيجدون الحقيقة أن التغيير في قطر هو مبدأ راسخ وثقافة عميقة انبنت على مسيرة حافلة بالطموح الفاعل والمستنير لتصل بالمواطن القطري إلى أن يكون دخله من أعلا الدخول على المستوى العالمي, علاوة على النهضة العمرانية والاقتصادية الهائلة التي حققت بوعي عميق وثقافة تنتمي للحاضر والمستقبل, ما يستحق النظر إليه بإعجاب وتقدير بالغين.
وإذاً ما الذي سيقوله الدكتاتوريون في هذه الأمة الذين يرهقون أوطانهم بالسيطرة والاستعلاء ونهب الموارد والفساد المستشري في البر والبحر والجو, ولم يقدموا لبلدانهم ما يستحق بعض فخر إن لم يكونوا عبارة عن قوي قمع وتسلط واستهتار بالسلطة؟, ما الذي سيقوله بشار في سوريا وهو يشرب دم أبناء وطنه ويبدو ضئيلاً جداً بتقدميته وعلمانيته أمام دولة قطر التي تقدم اليوم أرقى تجربة في التداول السلمي للسلطة بوعي تقدمي يهزم كل أدعياء التقدمية والعلمانية والديمقراطية في الوطن العربي وعلى رأسهم من يصنع شعار التأليه القبيح (الأسد قائدنا للأبد) و(طلبنا من الله المدد فمدنا ببشار الأسد)؟!.. هذه ثقافة القطيع الثقافة الصنمية البالية التي تتوج نفسها إلى الأبد حاكمة، في حين من كان له القدرة في الاستمرارية في الحكم وفقاً لطبيعة النظام الأميري نراه اليوم يفسح الطريق للجديد، يثق أن القادم أفضل رغم البصمات الكبيرة التي تشهد له بالكياسة والبراعة في التغيير.. لكنه زمن الوعي بالقادم، بالقدرة على تشوف المستقبل، بالإيمان العميق بالتنوع وحق الأجيال في أن تقدم نفسها بوثوقية دونما مصادرة لوجودها وتواجدها.
الرسالة إذاً عميقة وقوية وتضع رجالات الدكتاتورية في الوطن العربي في لفافاة لترمى في مزابل التاريخ, وقد عجزوا عن فهم العصر وطبيعة التحولات، في حين فهمتها قطر وأمراؤها مهما قال الذين يعبدون الأصنام والأوثان وتنابلة السلطان بخلاف ذلك.. صحيح نختلف مع قطر في بعض مواقفها ولكنا نجل توجهها الصادق وقدرتها على النهوض والتغيير وخلق مناخاته عربياً.
محمد اللوزي
قطر.. الانتقال الأنيق 1611