هناك مفاهيم رائعة نستقيها من الصيام لكن لمن يتعمق في معنويته عند إرادة قرأته, فلا يقرأ أو يكتفي بسطحيته, أي يقف عند حدود ماديته واختزال مفهوم الامتناع في الشرب والأكل والجماع.. فالصوم مغزاه لا نراه في السطح, بل كل مغزاه يدرك في العمق.. ومن هذه الرسائل المعنوية للصوم-بتصوري- تبصيرنا بأهمية التكيف وأثره على ثبات الفرد عندما تطرأ عليه المتغيرات الحياتية بجانبيها المادي والمعنوي؛ ولعل قول الرسول صلى الله عليه وسلم "اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم" فيه إشارة إلى أهمية التكيف في جانبه المادي الجسدي المتعلق بالأكل والشرب -مثلا-, فهذا المطلب الجسدي قد يسبب انحرافاً معنوياً في أثنا مسيرة الحياة لدى الإنسان؛ والإنسان إذا ما تكيف أو عود نفسه على العيش في ظروف مختلفة فإنه قد يسلم من الاهتزاز في جانبه المعنوي فإن شياطين الإنس غالباً ما يلوون ذراع معنى الإنسان بتجويع جسده، وهذا ما حصل في شعب أبي طالب من حصار حتى عصب على البطون بالحجارة لكن فالإنسان المتكيف غالبا ما يتوطن بالثبات؛ هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فيه- أي مفهوم "التكيف" والذي الصيام يدعمه- إشارة إلى أن التغيير سلباً أو إيجاباً هو من نواميس الكون.
إذاً إن العالم متغير وعلى الإنسان أن يكيف نفسه مادياً ومعنوياً, جسدياً وفكرياً.. فلا يبقى على حالة واحدة إلا الجمادات, بل إنها تتناقص لأن ثباتها على حالة واحدة أو جمودها جعلها عرضة لعوامل التعرية والتآكل.. لهذا يكون الإنسان المروض على التكيف أكبر قدرة على الثبات, فلا تستطيع تغيرات الزمن والمكان أن تعري معناه ليتنازل- مثلاً- عن مبادئه عند أول لحظة جوع, فلحظة جوعه إذا لم يكن مروضاً قد تكشف عن عورة عقله.. وفي هذا السياق نفسر قوله صلى الله عليه "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له؛ وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له", لكن الذي (لا يكيف/ يروض) نفسه على الغنى والفقر والشبع والجوع والفرح والسرور والجندية والقيادة.. الخ يتعرى معناه بسرعة ويهتز ثباته عند أول دفعة فيكشف عن لوثة عقله, لأنه لم يكيف أمره فيخر صبره منذ الدفعة الأولى, فينتهي أمره (ومن الناس من يعبد الله على حرف), فهو حدي متطرف.. لهذا الذي يكيف نفسه يكون دائماً وسطاً بين الظواهر الاجتماعية السالفة الذكر .. لكن هذا الذي على طرف يكون حديا دائماً؛ فهو لا يرضى أو لا يطمئن إلا بالتخمة في سياق الأكل ولا يقبل الجوع.. ولا يطمئن في سياق الاقتصاد إلا للغنى فلا يعترف بالفقر.. ولا يطمئن في سياق الهيكلة الإدارية إلا للقيادة وتأبى نفسه الجندية بل تمقتها.. ولأن هذه مباحة يجوز التطلع إليها أو الطموح.. كذلك قد كانت كل مظاهر الامتناع في سياق الصوم مباحة ومتاحة كالأكل والشرب والجماع.. لكن كان أحد أهداف الصوم لأجل التكيف والترويض على الوسطية في كل شيء أي في شقيها المادي والمعنوي فهذه هي فطرة الإنسان.. فكان لابد من الصوم وحرمان النفس بعض المباحات لساعات حتى تتروض على كل المتغيرات لهذا كان أحد أهداف الصوم أنه وسيلة ترويض.. لهذا كان من شأن ذلك المتطرف الحدي الذي لا يرضى من كل شيء إلا بأعلاه هو السقوط, إذ أنه يبقى غير قادر على التكيف مع المتغيرات, لهذا كان حال ذلك العابد الحدي المتطرف (فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة), فالوسطية المبنية على التكيف.. بدايتها ثبات وخلاصتها بلوغ الغاية والفلاح.. لكن الحدية المتطرفة التي لم تتكيف على الوسطية وما دونها.. فإن بدايتها اهتزاز ونهايتها سقوط وخلاصتها خسران.. هذا درس واحد نتعلمه من الصيام وهناك دروس أخرى لا تحصى, لكن إذا أحسنا القراءة وقرأنا السطور وما وراءها وعدم الاكتفاء بظاهرها.
د.حسن شمسان
للصوم معانٍ لا تقف عند معاني الامتناع 1246