الأمر الأهم في التشريع أو التقنين لمجتمع أو دولة ما هو سيادته ونفاذه على الجميع دون استثناء، سواء كان هذا التشريع دينياً أو وضعياً، فبنفاذ القانون وسيادته ومساواة الناس أمامه، لا نوعه، تستقر الأمم وتتطور..
بل إن الحديث النبوي الشريف عن هلاك الأمم التي كانت قبلنا كان يشير لنفاذ القانون لا نوع العقوبة، بالحديث عن معاقبة السارق الضعيف وترك معاقبة السارق القوي, وهي ذات الفكرة التي يقوم عليها تصور العالم الآن للقانون وسيادته..
لكن لمَ يعتقد البعض أن بعض الأحكام والحدود لبعض الجرائم هي الشريعة ويتحمس لها، فيما لا يجد أن فكرة نفاذ القانون على الجميع هي جوهر الشريعة، حيث لا تجده يهتم أو يتحرك للخلل الفاضح في تنفيذ القانون بين الأقوياء والضعفاء..
غير أن السؤال الأهم الآن، وهو ذاته من كان ولا يزال يتكرر منذ أكثر من مئة عام هو: هل ثمة خلاف حقيقي بين التشريع الديني والتشريع الوضعي؟.. الجواب هو نعم ولا في آن!.. فمن الناحية الشكلية يمكن القول إن الأمر مختلف فعلاً حيث التشريع الديني مصدره الإله، فيما التشريع الوضعي مصدره البشر. إلا أن فكرة التشريع تصدر من رأي فلسفي واحد هو تنظيم ما هو أخلاقي وما هو قانوني في مجتمع أو دولة ما..
حيث لكل مجتمع تصوره عن فكرتي الإثم (الأخلاق)، والجرم (القانون) سواء كان هذا المجتمع يقوم على فكرة دينية أو لا، ليس من فارق إلا بين ما يعده هذا المجتمع جرما ولا يعده الآخر، إلا أن الفكرة في محورها ترتكز على مبدأي الجريمة والعقاب التي لم يخلُ منها أي مجتمع منذ الأزل..
فما نعدها آثاماً وخطايا محلها الأخلاق سواء كانت أخلاقا ترتكز على دين أو لا، أما الجرائم فلها العقوبات القانونية من خلال عملية قضائية، تشترك فكرتي التشريع الإلهي والتقنين الوضعي في الحاجة لهذه العملية القضائية والعقاب، سواء كان الغرض الفلسفي منها هو "الجزاء على الفعل، أو الحد من الجريمة" ليكون نوع الجريمة و العقاب المحدد لها خلافا هامشيا لا جوهريا بين الفكرتين..
لكن هل يمكن الجمع بين الفكرتين "التشريع الإلهي والتقنين الوضعي" في نظام ما، أم أن كل منهما يتطلب إقصاء الآخر!، الجواب من وجهة نظري أنه يمكن ذلك، وهذا ما أحاول شرحه في هذا المقال.. إلا أن هذا يتطلب ابتداء الإشارة إلى مسألة مهمة وهي أن الفكرة التشريعية الوضعية الراهنة في الغرب كمحل للفكرة وتطورها، لم يحدث أن جمعت بين الأمرين وقد حسمت المسألة بشكل قطعي لإبعاد الكنيسة عن التشريع بعد أن كانت قد احتكرته لزمن، إلا أن ذلك لم يمنع تأثر التشريع الوضعي بتشريعات دينية مسيحية تركت أثرها كتحريم الزواج من اثنتين في بعض القوانين الغربية حيث هي فكرة كاثوليكية في الأصل..
إلا أن عدم حدوث المسألة "الجمع بين الفكرتين" في التجربة الغربية لا يعني أنها لا يمكن أن تحدث في مجتمع آخر تجربته هو الآخر مع الدين وفكرته عنه مختلفة تماما عن أوروبا الكنيسة في القرون الوسطى.
لن أطيل في التمهيد، دعونا الآن أن نحدد مفهوم الشريعة في الإسلام، حيث هي تشير إلى مسألتين لا مسألة واحدة، الأولى هي الدين، عموم الدين من مقاصد ومبادئ عامة، وهي مسألة واسعة جدا إلا أن في جوهرها التوحيد والعدل والخير والحق.. كمفاهيم مجردة، والثانية هي الحدود كعقوبات لجرائم معينة وهذه المسألة يمكن حصرها فيما لا يتجاوز ربما عشر مسائل قطعية كالزنا والقتل والسرقة وشرب الخمر مع اختلافات طفيفة في نوع العقوبات في بعض المذاهب، وفي مسألة أخرى تتعلق بالعقيدة لم تحسم كجريمة وهي مسألة الردة..
إلا أن الفرق بين مفهومي الشريعة الأول والثاني فرق مهم وجوهري، ومن المهم جدا التنبه له عند الحديث عن التشريع، فالشريعة في المفهوم الأول مقاصد ومبادئ عامة عن الحق والعدل والخير، والسعي لتحققها هي مهمة مجتمعية وعامة يشترك فيها كل الناس على اختلاف تصوراتهم لذلك الحق والعدل أو الخير ولا يحق لأحدهم الادعاء أنه صاحب التصور الحق وغيره لا، إلا أن يتوافق الناس على مبادئ عامة وآليات لتنظيم حياتهم وتصوراتهم وخلافاتهم وقوننتها كفكرتي الدستور والديمقراطية كآليتين لتنظيم مسألة الحكم والسياسة. كما يمكن الانطلاق من هذه المبادئ أيضا للتشريع والتقنين من خلال مجالس نيابية مختلفة لتنظيم مصالح أو تحديد جرائم قانونية لم يستوعبها النص الديني القطعي نتيجة التطور البشري والزمني، وتكون قابلة للتعديل والإضافة ضمن تطور العملية التشريعية النيابية ذاتها..
فيما المفهوم الثاني للشريعة كحدود وعقوبات لجرائم معينة (الجريمة، ونوع العقاب)، كنصوص قطعية ومحددة بما لا يتجاوز العشر مسائل ربما يمكن استيعابها ضمن عملية التقنين للدولة كأولوية ليس لأنها محددة من الإله وحسب، وإنما لكونها مفاهيم مستقرة وممارسة منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام، ولا أحسن من هذا لدعم فكرة الاستقرار القانوني حيث يكتسب قوة إضافية عن كونه قانون بكونه خلق ودين أيضا ضمن تصور وممارسة لفترة كبيرة من الزمن. ينطبق الأمر أيضا على فكرة الزكاة وإلزام تأديتها للدولة كمفهوم يشبه تماما مسألة الضريبة، حيث يلتقيان معا في فكرة مشتركة حول التصور للمال بين حق التملك الخاص والالتزام للمجتمع من خلال الدولة.
سيتبقى أمامنا المسألة الثانية في المفهوم الثاني للشريعة، والتي هو ربما مسألة واحدة هي مسألة الردة، يمكن القول أنه يمكن السكوت حيالها, حيث هي لا تزال تشهد جدلاً كبيراً بين اعتبارها جرماً أو لا، مع أن وجهة نظري هي أن المسألة أكثر تعقيدا وترتبط بظروف أخرى كحال الدولة والمجتمع في الزمان والمكان وارتباط ذلك بالإيذاء للمجتمع كمحاربته، أو بمعنى آخر الاقتران بجريمة أخرى هي أكثر وضوحاً.
يمكن القول هنا الآن أن التشريع الوضعي يمكن تصنيفه في المفهوم الأول للشريعة حيث المقاصد والمبادئ العامة والتصور للعدل والحق والخير، كمسائل مشتركة مع تلك الفلسفات التشريعية التي لا تنطلق من الدين أيضا. حيث المسألة برمتها (التفكير، أو الفقه والاجتهاد) مسائل بشرية بحتة، حيث لا أحد يملك وحيا خاصا مع الله، أو "فقها" ينفذ إلى الماورائيات، فإن كانت هذه المسألة قد احتكرها الفقهاء وهم طبقة معينة من الناس لفترة من الزمن فذلك يرجع للظروف الزمنية والتاريخية للمجتمعات العربية والمسلمة، لا لأنهم كانوا يمتلكون تفويضاً خاصاً من الله.
وفي نظام ديمقراطي يتيح للناس اختيار ممثليهم في الحكم والتشريع لتحقيق مصالحهم ومقاصد العدل والحق والخير ضمن آلية متفق عليها، يجب حسم المسألة تماما لصالح هذه الآلية لا أن تظل تتنازع مع الآليات الأخرى. مع أن هذا لا يعني أبدا الاعتداء على حق الله.. ما دام هي تلك المسائل القطعية مقننة ويضمن سيادتها ونفاذها مثلها مثل ما هو قانوني في البلد..
إلا أن نفاذ القانون قد يشهد اختلالا كبيرا بسبب القائمين على تنفيذه، سيحتاج الأمر إلى آلية لمعالجته حتما، حددت الآلية الديمقراطية مفهوم الرقابة المجتمعية لتحقيق نفاذ القانون وعدم الإخلال به، يبدو لي الأمر هنا مشابها تماما لفكرة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" من حيث هي مهمة جمعية لا فردية، وحيث الإثم والجرم ليسا هما المنكر، إلا أنهما قد يصيران كذلك حين يشيعان ولا يجدي معهما خلق ولا قانون -قد يتلاعب به- لردعهما، ليتطلب الأمر مهمة جَمْعية لا يقوم بها إلا مجتمع أو أمة.
لا أجد الحديث حول هذه المسألة مهماً أو مجدياً في الجدل الذي يحدث الآن حول صياغة الدستور الجديد للدولة اليمنية، إلا أني أجد أنه بات من المهم فعلاً حسم تصور واضح حيال المسألة، وهذا ما اجتهدت في تقديمه هنا، أتمنى أن أكون قد وفقت في ذلك.. وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا.
عبدالله دوبله
التشريع في الدولة.. الجمع بين الوضعي والديني 1667