ما إن توقف الميكرفون عن بثه لصلاة الفجر وعاد فيه المصلون لبيوتهم؛ حتى استأنف الميكرفون مرسلاً تكبيرات صلاة العيد في فضاء غسق ممطر، ربما وبعيد مغادرة إمام الجامع لصلاة الفجر بدقائق عشر أو يزيد, كان ثلة صبيان قد تحلقوا حول لاقط الميكرفون وبدأوا يهتفون فيه تكبيرة مزعجة مؤذية لا تستقيم مطلقاً مع أعظم سيمفونية جماعية .
ارتديت ثوب العيد واعتمرت غترة الرأس علها تخفف عني ودق السماء الذي أخذ يهمي بفتور وكسل المستيقظ من غفوة خفيفة، قلت وبنفس حائرة وجلة: لماذا على الإنسان اجتراح مأثرة بطولية كي يؤدي صلاة العيد وفي المصلى ذاته الذي صلى فيه أبوه وجده؟, وكيف باتت فيه العبادة مجرد عادة مكتسبة خالية من مضامينها الروحية الإيمانية الإنسانية؟.
نعم على الواحد منا تجشم عناء المسافة كيما يصغي لخطبة تلامس واقع حياته، وكي يصلي خلف أمام أنسان كالشيخ/ محمد بن محمد الفقيه, صاحب الصوت الجهور المنافح بقوة في سبيل الحق والعدل والصدق والحياة الكريمة المتسامحة وسواها من القيم الأصيلة المجسدة لروح وجوهر الدين الخالص النقي من شوائب التأويلات البشرية المتنطعة والمغالية في قراءتها وتفسيرها.
ونعم, أيضاً, بأن مأساتنا كامنة اليوم في الأسرة والمسجد والمدرسة والنخبة والإعلام وفق توصيف شيخنا المحترم والمتواضع، ومع اتفاقي المبدئي معه في ما ذهب اليه من أسباب عدها وراء هذا الحالة المجتمعية المشاهدة الآن، فكل من البيت والمدرسة والجامع والملتقى السياسي والثقافي ووسائل الإعلام جميعها مسئولة, وإن بنسبة متفاوتة, في شيوع مظاهر منحلة ومنحطة لم تكن لتجد ضالتها في كثير من الشباب..
فلولا تخاذل وفشل أرباب هؤلاء الفتيان الضحايا في المنزل والحي، ومن ثم المعلم في الصف والمدرسة، والواعظ والمرشد في منبره ومسجده، وقادة الأحزاب والمكونات الحراكية الجنوبية في مقراتها ومواقعها، ووسائل الإعلام المختلفة في ما تنشره وتبثه من موضوعات وأنباء ضارة وزائفة ملوثة لوعي الشباب ولذهنهم الضال والمنحرف الآن.
وعودة لتكبيرات صلاة العيد المسموعة في عتمة المكان قبل وقتها، وبصوت شاحب نشاز أقل ما يقال عنه بتنغيصه لسكينة لحظات انبلاج الصبح وبتكدير وتنفير العباد الساعين وراء فرحة عيد تسري في أعماقهم، نابضة في قلوبهم، عامرة في وجوههم، متجسدة في ابتسامتهم؛ فعلى أهمية المناسبة الدينية كانت تلكم الأصوات المنبعثة من أكثر من حدب وصوب لا توحي بغير السأم والرتابة الكئيبة ..
لكأن المسألة مجرد صراخ مزعج مؤذٍ خالٍ من أي إحساس روحي!.. البعض عدها وظيفة روتينية يتبرع بها دونما اكتراث لماهية وقعها في نفوس وآذان الخلق؛ فباستثناء عظة حسنة؛ جل ما تراه بعينيك، أو تشمه بأنفيك لا يوحي لك بثمة رابط ما بين أقوالنا وأفعالنا، فالنظافة من الأيمان ومع قيمتها وأهميتها تجد الوساخة والقذارة في كل مكان تذهب إليه، فهذه القمامة مكدسة بجوار مهجعك وصلاتك، وذاك طفح المجاري لا يتورع عن إفساد حياتك وتنغيص فرحتك وتدنيس بدنك وثيابك، وذاك البائع يغشك جهاراً نهاراً, وووووو.
قبل سنوات قال لي صديقي العائد لتوه من الخارج وبلغة المازح المتهكم: لماذا نحن المسلمون بهذه الصورة القذرة والوسخة؟, وكيف تفسر لي ما رأيته في بيروت، أو قبرص من نظافة في الأحياء التي يقطنها غير المسلمين والعكس أيضاً حين يقودك حظك العاثر إلى أحياء المسلمين؟. وأضاف: تخيل انه بمقدورك معرفة أين يسكن المسلمون وأين يسكن المسيحون في لبنان وقبرص ومن دون حاجة لمن يرشدك ويدلك, فحيثما وجدت نفسك في بقعة نظيفة راقية فأنت إذن في حي مسيحي، أما وإذا كنت في مكان ديدنه الوساخة والفوضى فتأكد تماماً بانك في حي أو شارع أهله من المسلمين.
إنها والله لمأساة عظيمة أن يصير دين الإسلام مجرد طقوس وشعائر نؤديها دونما إحساس أو شعور أو تفكير أو تدبر أو مجاهدة!, فماذا يعني الامتناع عن الأكل والشراب إذا ما كان لساننا لا يمتنع عن قول الكذب والزور والنفاق والسباب، وإذا ما كانت أيام رمضان ليست إلا ساعات للنوم والأكل والقات والسهر؟.. وماذا تعني صلاتنا وقيامنا وصيامنا إذا ما نفوسنا ينقصها الوازع، والتقوى، والمحبة، والإخلاص، والعمل، والصدق، والعدل، والصفاء الذهني، والنظافة، والنظام، والحياة الكريمة, وسواها من الأشياء الجميلة والأصيلة التي غفلناها عنوة أو جهلاً أو استهتاراً, فيما هي روح وجوهر الدين والتدين وقبل الصلاة والصيام والقيام؟.
وفيما كنت أكابد مشقة العبور إلى مصلى العيد رأيت أناساً وقد اتسخت أقدامهم ومؤخراتهم بخليط من ماء السماء ومخلفات البشر، جميعهم عجلون، لاهثون، صامتون، عابسون، منهكون، كدرون، فالمهم لهؤلاء بلوغ مصلى العيد.. إنها عبادة أشبه بعادة يجب أن يؤديها الواحد منا ودونما إحساس أو اطمئنان نفسي وذهني، تكبيرات كدرة شاحبة صاعدة في ثنايا جامع يعج بوجوه أضناها أرق السهر، وأفواه متثائبة وأبدان هزيلة منهكة تكسوها في المعظم ثياب رثة رخيصة متواضعة.
هكذا إذن المسألة!؛ إسقاط واجب والعودة للفراش لنغط بنومة عميقة لا نستفيق بعدها سوى لمضغ وريقات القات وضبط وقتها مع زمن ما بعد رمضان، الكثير منا لا يريد هجر مخدعه النهاري, فوجد في شوال أياماً ستة ينبغي صيامها, فيظل نهاره نائماً وليله مبحشماً، وبذلك يكون قد زاد لرمضان أسبوعاً, فيظفر بفسحة مجانية وكسب الأجر والثواب.
سألت, وبفضول, أحد فقهاءنا المتنورين: أليس العمل عبادة، والنظافة واحترام النظام وحق الجار وكلمة الحق والصدق والانضباط وطاعة الوالدين والنهي عن المنكر والبغي والعدوان وغيرها تعد عبادات يستوجب القيام بها طاعة ومرضاة لله؟.. أجاب: الفقه الإسلامي تم ابتساره بفقه العبادات ولدرجة انك تجد مكتبات كاملة في مسألة الوضوء, رغم أن ذكرها في القران لا يتعدى الآية الواحدة، يقابل هذا الترف في فقه العبادات تجد شحة وندرة في فقه السلطانية أو السياسة وكذا فقه المعاملات.
نعم إنه لمن السذاجة والجهالة الفصل ما بين الحكام الطغاة وفقه السياسة أو المعاملات, فكلا المسألتين بلا شك من المواضع الحساسة والخطرة على الحكام، وبما أن الخوض فيها كان محدوداً وضئيلاً امتثالاً وطاعة وخوفاً من بطش وتنكيل الحكام القساة؛ فقد انصرف معظم فقهاء الأمة إلى فقه العبادات الذي أسهبوا فيه ولدرجة التخمة وسوء الهضم لكثير من المسائل الفرعية الخلافية التي تم تصويرها وكأنها من المسائل الجوهرية والأساسية, فيما هي عكس ذلك, إذ تعد نتاج حقبة تاريخية وسياسية ونتاج فقهاء آثروا مداهنة السلطان والتماهي مع مقتضياته.
نعم لماذا علي الابتهاج بالعيد فيما صباحي تعطره الرائحة النتنة؟, وكيف لا تؤذيني أصوات الميكرفونات المستهترة بالوقت والسكينة وروحانية المناسبة؟, ولماذا على الواحد منا الصمت إزاء واقع بائس زاخر بالمنغصات, ليس أولها عدم احترام لبيت الله الذي تشاهد فيه أحذية المصلين وهي منتهكة لعظمته وهيبته وقدسيته؟.
محمد علي محسن
خواطر يوم غير سعيد!! 1754