لقد أسال الحديث عن القبيلة اليمنية الكثير من الحبر، ويريد في الوقت نفسه أن يسيل الكثير من الدماء.. إذ يعدها البعض العقبة الكؤود في مسيرة الثورة ومسيرة بناء الدولة اليمنية الحديثة؛ حتى إن البعض قد ذهب إلى القول مخاطباً هادي:" إن القبيلة أخطر من القاعدة", وهناك من يوافقه على قوله, وبغض النظر عمن يسعى وراء الحصول على مليون توقيع على غرار ما حصل من حركة تمرد المصرية.. بمعنى أننا اليوم نلحظ حملة شعواء على القبيلة اليمنية تريد أن تجر الثورة ومفرداتها إلى معركة ثانوية مُنسية إياها معركتها الأهم مع المتآمرين, وكأن هؤلاء الداعين إلى حرف معركة الثورة عن مسارها الحقيقي؛ لم يتعظوا من تجارب السابقين؛ أو أنهم يدركونها جيداً ويريدون الشر بالثورة ليزجونها في حرب مع القبيلة حتى يتفرغون لثورتهم المضادة ومحاولة إعادة تشكيل النظام السابق والتقاط أنفاسه من جديد..
فإذا بمتآمري الأمس يعيدون الصورة نفسها؛ فما أشبه اليوم بالبارحة؛ فقد كان الحمدي- رحمه الله- يسعى البارحة لمشروع الدولة اليمنية الحديثة كما تسعى إليه الثورة اليوم؛ بيد أن المتآمرين جروه لمربع أو نفق القبيلة، حيث صوروا له القبيلة أنها هي العدو الأصيل التي ستقف ضد مشروعه، فأنسوه بذلك مشروعه الأهم ليدخل في صراعات جانبية مع القبيلة أرهقته بل أزهقته وأزهقت المشروع المدني برمته، وها هم الآن المتآمرون أنفسهم, الداخليين والإقليميين والدوليين, يريدون جر ثورتنا إلى المربع أو النفق المظلم نفسه ليجهضوا المشروع قبل أن يولد؛ خاصة وأن مفعول الحوار "المخدر" قد أشرف على الانتهاء ؛ أضف إلى أنه أي الحوار قد خرج بنتائج أقرب إلى الإيجابية لا يرغب بها المتآمر.
أنا لست منحازاً إلى القبيلة وإلى التخلف الذي تتدثر به؛ لكني أنحاز إلى الموضوعية في التحليل؛ بمعنى أنني أدرك صعوبة الوضع المتخلف الذي تعاني منه القبيلة, لكن في الوقت نفسه أذهب إلى القول أنها منه براء, فقد أكرهت على العيش معزولة عن سبل العلم والتوعية وتُقصد تجهيلها والإبقاء على أميتها وتخلفها في فترة حكم مملكتين متتاليتين ضلتا لأكثر من خمسة عقود: المملكة المتوكلية قبل ثورة ٦٢ ومملكة آل صالح بعد ثورة ٦٢، وما كان ليدوم حكم المملكتين أكثر من خمسة عقود لولا تقصد تجهيل القبيلة والإبقاء على تخلفها لتضل مشغولة بحروبها ويتفرغ صالح لبناء مملكته.
والداهية العظمى في الأمر أن الذين يرون في القبيلة العائق الوحيد والعدو الأصيل يدعون إلى استئصالها أو إقصاءها من الحياة السياسية في اليمن برمتها.. ومن هنا دعوني أقول إن الذي يرى بضرورة إقصاء القبيلة من الحياة السياسية بسبب ذنب أو إثم لم تقترفه القبيلة بل الأنظمة السابقة؛ كالذي يذهب إلى ضرورة نسف الجبال من البنية التضاريسية لأنها تقف حائلا أمام التحرك والتنقل السريع حيث لم يقم النظام السابق قبل والثورة ولا بعدها بشق طرق عليها وإنشاء أنفاق في باطنها؛ لهذا نحن وظيفتنا الآن ليست ترويض القبيلة ولا شق طرقات أو عمل أنفاق بل وظيفتنا هي نسف البنية الاجتماعية القبلية وبالمقابل نسف البنية الطبيعية الجبلية فكلا البنيتين عائق أمام التنقل والتطور السريع!, فكما أنه يستحيل نسف الجبال في اليمن وجعل أرضها صفصفا (لا تجد فيها عوجاً ولا أمتا) فإنه يستحيل في الوقت نفسه إقصاء القبيلة من الحياة السياسة, بل الذي يقبله العقل الإنساني والمنطق الرياضي هو الترويض, فكما أن الجبل لا يقف حائلاً بينك وبين رؤية الجانب الآخر والانتقال إليه, إذ يمكن تعبيده, ويستحيل نسفه, كذلك القبيلة يمكن ترويضها على العيش في الحياة المدنية لكنه يستحيل إقصاءها أو كما يذهب البعض إلى القول بإسقاطها..
إن الذي يؤمن بسهولة إزالة البنية القبيلة من الحياة السياسية هو يؤمن بالدرجة نفسها بسهولة إزالة البنية التضاريسية الجبلية من الحياة الطبيعية.. أنا وكثير من العاقلين الموضوعيين نؤمن بصعوبة البنيتين, لكن نؤمن في الوقت نفسه بالقدرة على تجاوزهما بالتعبيد والترويض وليس بالنسف والإقصاء.. فالذي يحاول نسف الجبال سيدفن نفسه تحتها قبل أن يكمل مشواره أو يصل إلى مبتغاه ؛ فمعروف أن الديناميت لا يستعمل إلا في المكان الذي لا يقبل الترويض، بل ويستعصي عليه.
إن عدو الثورة الحقيقي هو المتآمر وهذا المتآمر يتشكل في القبيلة وفي الطائفة وفي الحزب السياسي بل في البنية المجتمعية اليمنية بمختلف أطيافها.. فمشكلة الثورة ليست مع القبيلة, بل هذه الأخيرة أو الذخيرة ستكون عاملاً مساعداً في مسيرة مشروع الدولة المدنية ولا نجحد دورها وحروبها مع فلول النظام السابق في نهم وحروبها ضد الحوثيين في الجوف ودماج.
اللهم اهدي قومي إلى الحق وارفع الغطاء عن أعينهم ليروا العدو الأصيل والحقيقي الذي يريد جرهم إلى حرب مع القبيلة ليجهض مشرع الثورة اليوم, كما أجهض مشرع حمدي بالأمس.
د.حسن شمسان
شؤون التآمر أم شؤون القبيلة! 1213