البنا لا يتم إلا بالبنائين ويستحيل أن يبني أو يشترك في البناء من حددت وظيفته مسبقاً في الهدم فلا يصح منطقا ولا شرعا أن يكون هذا لبنة في صف البناء, فما بالك بأن يصير حجر زاوية في إحدى زواياه أو جلها!..
وما وصلت إليه الأمة إلى ما وصلت إليه من تخبط وانحلال وهدم أخلاقي إلا لأنه تولى مهمة البناء فيها الهدامون أو من وظيفتهم الهدم. إن الحياة الإنسانية حسب السياسة الإسلامية أو السنة الكونية أو الناموس الإلهي؛ تقوم على ظاهرة التنوع والاختلاف (التدابع) وأعلى سقف لهذه الظاهرة هو "الصراع" إذا حصل اعتداء على مقومات الحياة وهذا المصطلح الأخير (الصراع) ينخلع على طرفين هما في غاية الضدية؛ (الحق والباطل)؛ فالحق وضيفته بناءه والباطل وظيفته هدامة وهذا المسميان (الحق والباطل) معنويان أو مجردان وإذا ما أطلقا فإنما يقصد بهما أهل الحق وأصحاب الباطل, أو حزب الله وحزب الشيطان وهذه مصطلحات قرآنية لا غبار عليها وهذان الحزبان يقومان على الصراع والتدافع وليس التوافق.
والسؤال الذي يفرض نفسه في سياق أحداث الثورات وما أفضت إليه من دعوات عبر مبادرات إلى التوافق: هل بالإمكان أن تبنى الحياة وتعمر الأرض على التوافق بين الحق والباطل أو بين أهل الحق وأصحاب الباطل؟ أو بين حزب الله وحزب الشيطان؟..
ليس ثمة شك أن ظهور الدعوة إلى التوافق حصل بعد ربيع الثورات وفي بلدان الثورات بالذات التي حصل فيها انقلاب الموازين, إذ أدت حرية شعوب الثورات إلى علو الإسلاميين تيار الحق وسياسة العدل، وفي المقابل انحسار تيار الغرب المتمثل في اللبراليين, وذلكم العلو للإسلاميين والانحسار للبراليين قد حصل عبر آلية الغربيين أنفسهم. الديمقراطية التي أقنعوا الإسلاميين بها ثم ما لبثوا أن كفروا بها, فبدا المتآمرون وأمريكا تحديداً في صورة التي (نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا).. وأمريكا فعلاً ستعود بالمسلمين إلى ذروة السنام التي صرفتهم عنه طويلاً؛ فهي عندما تقفل عليهم باب الديمقراطية فإنها ستجبرهم إلى صناديق الذخيرة والبندقية وينخلع على أمريكا حينها المثل الفصيح "على نفسها جنت براقش" وقريباً سنجد أمريكا في صورة براقش.
إن الدعوة إلى التوافق بين السياسيين إنما تعني دون مغالطة الدعوة إلى التوافق بين الحق والباطل أو توافق البنائين والهدامين، أو توافق الإنسانية والشيطانية أو توافق حزب الله وحزب الشيطان. وتعديل المسمى إلى خلاف سياسي لا يغطي عين الحقيقة وتسمية المؤامرة بمسمى المبادرة لا يجعلنا نصدق بأن الذئاب صاروا بقدرة قادر رعاة، وإن الله لما حرم على اليهود شحم الميتة أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه؛ فإذابة الشحم وتحويله من جامد إلى سائل لا تنفي بقاؤه حراماً.
وتسمية الخلاف بين مشروع الحق ومشروع الباطل خلاف سياسي لا تغطي حقيقة الخلاف العقدي (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)؛ فما حدث في مصر من انقلاب لم يستهدف تيارا سياسيا يسمى الإخوان كما يزعم أنصار الشيطان؛ إنما استهدف المشروع الإسلامي، فلم تكن تهمة الإخوان الإرهاب بل تهمتهم الحقيقية حب البلاد والعباد فهم متهمون بالانتماء للمشروع الإسلامي الذي يمثل السياسة المنسجمة مع الفطرة الإنسانية التي فطرت على الحرية والتي تحرم الظلم والجور وتمنح بدلاً انه الحق والعدل "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا".
إن مشكلة العالم المعاصرة أجمع تكمن في دالة "الظلم" الذي هو نقيض الحق والعدل, أو الكيل بمكيالين وهذا جعل الديمقراطية ديمقراطيتين واحدة غربية تقوم على إلية الصناديق الانتخابية وأخرى عربية تقوم الشوارعية والمروحية والفوضوية هذا مكيال أو تعريف الحكومة الأمريكية للديمقراطية العربية لقد صارت بالفعل إرهابية لأنها أفرزت الإسلاميين؛ هذه حقيقة العداء وهذه حقيقة التهمة.
إذاً هم يحاربون سياسة المشروع الإسلامي التي تقيم العلاقات بين الإنسانية والألوهية والإنسانية والإنسانية والإنسانية والبهيمية والإنسانية والجمادات على الإحسان والرحمة والحب "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" ويشير صلى الله عليه وسلم إلى أحد قائلاً: "هذا جبل يحبنا ونحبه", إنه إحسان تجاوز حقوق الحيوانات إلى الجمادات، وليس على سياق العلمانية التي تتغنى بحقوق الحيوان وفي الوقت نفسه تقتل الإنسان.
إن السياسة التي تمثل المشروع الإسلامي أو الذي يمثلها الإسلام لا تروق للغربيين وبمعنى أدق لا تروق لغطرسة اليهود فهم يرون أنفسهم سلالة متميزة وينظرون لمن دونهم نظرة الاحتقار فيرونهم عبيدا تارة وحميراً تارة أخرى ولم تخب زعامات الأمة الإسلامية قبل الثورات نظرتهم فانقسموا بين عبيد وحمير يخدمون اليهود؛ وإن الكفر بالديمقراطية والحرية يعني محاولة اليائس للإبقاء على زمن العبيد والحمير؛ لهذا كانت سياسة الإسلام أو إسلام السياسة تزعج مثل تلك غطرسة؛ لهذا حرص الأخيرون أو ما يسمى بالصهيوأمريكية على بقاء المشروع الإسلامي منحسراً عن السياسة بدعوى مغلوطة أو مدروسة مفادها: إن السياسة نجاسة والدين قداسة ولا ينبغي للقداسة أن تقترب من النجاسة حتى لا تتنجس، فهم حريصون على الإسلام حتى لا يتنجس من نجس سياستهم وكأن السياسة ما خلقت إلا نجسة وما تصلح إلا للأنجاس؛ وإذا ما قلنا لهم بالمنطق نفسه: لم لا تسمحوا للقداسة أن تقترب من السياسة فيقينا سوف تطهرها وتضيء ظلامها؟ ولم دائماً تتوقعون حصول العكس أو الأسوأ؟.
صحيح لقد أصبحت السياسة وأضحت وأمست وباتت قذرة متسخة مظلمة, لا لأنها ولدت كذلك أو جبلت هكذا؛ بل لأنها فصلت بقصد عن مصدر الطهارة ومصدر النور بدعوى العلمانية "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة" وما علموا أن الإسلام هو السياسة العادلة المقنعة وأن السياسة العادلة المقنعة تي الإسلام، وما علمت الأمة الإنسانية جمعاء أن سياسة العلمانية ستظل هكذا قبيحة مظلمة حتى تصير إنسانية أو إسلامية ،سيان؛ فإذا لم توصل السياسة من جديد بتيار نورها ومصدر نظافتها الإسلام ستضل نجسة مظلمة يطوف حولها الأنجاس والظلاميون، واستمرار الفصل بين الإسلام والسياسة أو بين الحسد عن روحه؛ هي دعوة لبقاء المدنسين والنجسين والظلاميين في أماكن السيادة والقرار، وهي دعوة مبطنة لبقاء العملاء في منصة القرار واستبعاد العلماء؛ ودعوة لإبقاء العبيد الذين يجعلون البلاد والعباد عرضة للبيع بالمزاد في تلك المنصة وانحسار الأحرار الذين يقدمون مصالح أوطانهم وإن أدى ذلك إلى إبادتهم.
بالله عليكم هل يصلح توافق بين الحرية والكرامة من جهة وبين العبودية والمهانة من جهة ثانية؟, هل يصح توافق بين من باعوا أنفسهم للشيطان فصاروا شياطين وبين من باعوا أنفسهم للمنان فعاشوا الإنسانية وماتوا بها وسيلقون ربهم بها؟.. قولوا لي بربكم: كيف يتفق أو يتوافق من وظيفته الهدم ومن وظيفته البناء على بناء الأوطان؟..
إننا إذا ما ذهبنا ووافقنا وباركنا الدعوات التي يزفها لنا المتآمرون تحت سقف المبادرات فإن هذا يعني بقاء الحال على ما كان عليه, بل أسوأ مما كان عليه؛ لأن في هذه الدعوات خرق لنواميس الحياة التي تقوم على التدافع ونحن نقعدها بسنة العلمانية (التوافق), فما أشبه هذه المبادرات التوافقية بمبادرة كفار قريش عندما قالوا للمؤمنين "نعبد إلهكم سنة وتعبدون إلهنا سنة"..
ودعوة العلمانية للتوافق لا تختلف عنها فهي تجزئ المشروع الذي لا ينبغي أن يجزأ ولا يقبل التجزئة, ومن يدعو إلى ذلك من الإسلاميين على شرع الله جريء, لأن المشروع الإسلامي إطلاقا لا يقبل التجزئة, فإما أن يؤخذ كله أو يترك كله، وهنا تعود الحياة إلى ناموسها, بمعنى إما أن تصبغ بصبغة السياسة العلمانية الخاطئة القاصرة أو يتغلب الحق فتصبغ الحياة بصبغة السياسة الإسلامية.. أما أن ندعوا لتوافق سياسة العلمانية بالإسلام بدعوى عمارة الحياة فذلك حرام أو ظلم نجعل فيه عقل العلماني المخلوق ندا لمن خلق العقل (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير), والدعوة للتوافق يغيب فيها الحق والباطل فالحق لا يكون حقاً إلا إذا تميز ولا ينتصر كذلك إلا في حالة تميزه وفي المقابل يختلط إلى الناس الباطل عندما ينصهر في صف الحق.. لهذا عمارة الأرض لن تمضي بدعوة التوافق, بل ستتوقف وقد تتراجع للوراء, لأن في ذلك خرقاً للناموس الإلهي الكوني الذي على حقيقته تقوم عمارة الحياة, فالحياة تقوم وتنهض بالتدافع لا بالتوافق!.
د.حسن شمسان
سياسة التوافق العلمانية.. انحراف عن سياسة التدافع الإسلامية! 1366