قبل الفيدرالية يتوجب على الفيدراليين إعمال الصدق باعتباره أهم وأبلغ ضمانة من الاتفاقات والعهود، فوفق فهمي المتواضع للنظام الفيدرالي هو أنه لا يعني فقط توزيع السلطة وإعادة رسم الجغرافيا بناء ومقتضيات اجتماعية وتاريخية واقتصادية وثقافية؛ لكنه أيضاً يعني قيمة نفعية ونوايا صادقة تصاحبها إرادة سياسية ورغبة مخلصة في مشاركة الآخرين في السلطة والثروة والقوة .
وفي الاعتراف الصريح بهوية وولاء الآخر، وباحترام خصوصيته ، ومعتقده ، وكرامته، فالمهم والأساس من انتهاج الفيدرالية هو صدق الشعور وقوة الإحساس بالشراكة الجمعية في بناء الدولة القوية العادلة الديمقراطية باعتبارها غاية وهدفاً تسعى لتحقيقه كل مجتمعات الأنظمة الفيدرالية .
فجوهر الفدرالية وفق تعريف رونالد واتس مؤلف كتاب " الأنظمة الفيدرالية " هو ترسيخ الوحدة واللامركزية والمحافظة عليهما في آن واحد، فالاتحادات الفدرالية محورها الأساس القيمة والمصداقية المفترضة في الجمع ما بين الوحدة والتعددية ،وعلى استيعاب الهويات المميزة والحفاظ عليها وتعزيزها ضمن اتحاد سياسي اكبر حجما " .
ما أسمعه واراه هذه الأيام لا صلة له البتة بفدرلة الدولة اليمنية المنشودة لغالبية اليمنيين الذين أنهكتهم صراعات القبائل المتناحرة على السلطة ، وإنما يمكن وصفه بصراع ماضوي أناني شخصي مزاجي عاطفي مكرس للهيمنة والغلبة الفئوية والقبلية والمناطقية والطائفية .
فكل هذا الجدل والوجل والشك لا علاقة له بالفدرلة ومفاهيمها ومساراتها وشروطها المؤسسة لدولة موحدة ومستقرة مجتمعيا ؛ بل هذه المفردات لها علاقة وثيقة بماض موغل في الاستئثار والعنف والإقصاء والخوف والانقسام والمقاومة السلبية لكل أشكال التمدن والتحضر والاندماج والتعايش والاستقرار والشراكة الحقيقية والمواطنة المتساوية .
وإذا كانت الفدرلة في المقام الأول صدقاً وغرضاً نبيلاً مبتغاه دولة يمنية قوية ومستقرة ؛فإن الواقع المشاهد يشيء بالكذب والتضليل والحيلة والتوجس والرفض والعنت وسواها من الممارسات التي نراها الآن ماثلة شاخصة ، كأنما الفدرلة ليست سوى محاولة للإفلات من المشكلات العميقة القاتلة للوحدة الاندماجية .
إنه ذات الخطأ أو قولوا الغدر المميت الذي كان مستهله اتفاقا خادعا ومستريبا بدولة واحدة أُعلنت سنة 90م ولم يدم عهدها أشهرا حتى تكشفت وبرزت عرى خطأها القاتل ، الواقع إننا إزاء دولة اتحادية ولكن بمنطق جزع مخاتل سقيم لا يتورع عن تلغيم المستقبل بإمراضه وحيله وأساليبه القديمة التي أودت بدولة الوحدة وبمجتمعها إلى هذه الحالة غير قابلة بالبقاء أو الاستمرار .
شخصيا لا أجد في فدرلة الدولة اليمنية خطرا مستطيرا على التوحد السياسي، فعلى العكس ربما أفلحت الفدرلة بحفظ اليمن موحداً..
ما أخشاه ليس من فدرلة ثنائية أو خماسية وإنما من ناحية الدولة الضعيفة الهشة الفاقدة السيطرة والسيادة على عاصمتها قبل أقاليمها المفترضة، ليكن الجنوب إقليماً وحيداً والشمال بعشرة أقاليم.
فهل المشكلة هنا بقلة وكثافة الأقاليم وحدودها وثروتها أم أن المشكلة بالدولة المركزية الفاقدة القدرة والأهلية على فرض نفوذها وسلطتها على أقاليمها وحدودها السيادية ؟ أعتقد أن الخطر الحقيقي يأتي من جهة الدولة المركزية المناط بها مهمة التجسيد للفدرلة الإدارية ورعايتها وتطويرها وبما يجعلها في نهاية المطاف في خدمة رفاهية وتنمية المجتمع المتحد أولاً وتالياً في خدمة قوة واستقرار دولته المتحدة .
في سويسرا 26كانتونا لقرابة عشرة ملايين إنسان يتحدثون ثلاث لغات مختلفة- ألمانية وفرنسية وإيطالية - ويعتنقون المسيحية بمذاهبها البروتستانتية والأرثوذكسية والكاثوليكية ناهيك عن الأديان الوافدة مع المسلمين واليهود والهندوس والبوذية وسواهم ممن لا دين لهم ويعيشون معا على جغرافية لا تزيد عن مساحة محافظة (40ألف كم2 ) .
هذه الدولة بلا جيش أو ثروة نفط أو غاز ، ومع كل ذلك قدر لهذه الدولة إقامة نظام فيدرالي متناغم ومستقر رغم تلكم الفروقات الاثنية والطائفية واللغوية ، فمن خلال الاهتمام بالإنسان واحترام حرياته وتعدديته نهضت سويسرا وتصدرت قائمة الدول وبثروة بقرها ال600ألف رأس حققت ما لم تستطع تحقيقه دولة منتجة ل10مليون برميل نفط في اليوم .
ولاية الباما الأمريكية كانت قد ضمنت دستورها بشرط حق الاستقلال عن أمريكا متى رأت أن مصلحتها تقتضي الانفصال عن الكيان الأمريكي, فكل ما يستلزمها في هذه الحالة هو تصويت برلمانها وبواقع النصف زايد واحد ، لكنها ومنذ انضمامها لم تعد تكترث لحق الانفصال فلقد كانت المنافع المشتركة مع الولايات الأخرى أكبر من يجعلها أسيرة نص دستوري يمنحها الاستقلال .
فالمهم في النظام الفدرالي هو الصدق مع الذات ومع المجتمع ، فدون الاعتماد على الصدق كوسيلة وغاية للعبور باليمن واليمنيين إلى الدولة القوية المستقرة العادلة الناهضة ؛ سيكون الحديث عن أي شكل للدولة مجرد سفسطة عبثية مبددة للوقت ومهدرة للطاقة والفرصة، هذا إذا لم نقل بانه لن يفضي لسوى المزيد من التفكك لكيان دولة عمادها الحيلة والوهم والشك والخوف والحسابات الشخصية .
أيا يكن الأمر فهناك ثمانية وعشرين كيانا فيدراليا يقطنها أربعون بالمائة من سكان المعمورة، فمن عشر دول كثافة سكانية توجد ست دول فيدرالية كما ومن بين اكبر عشر دول مساحة في العالم توجد ثمان دول أنظمتها فيدرالية ومن بين أصغر الدول كثافة ومساحة أيضاً توجد دولا لا تتعدى مساحتها وسكانها جزر سقطرى وكمران إن لم أقل مديريات ومحافظات في اليمن .
البعض لديه مخاوفه من تكرار تجربة التشيك والسلوفاك وجنوب السودان وشماله أو باكستان وبنجلادش ، ثلاثة نماذج ربما عدها هؤلاء دليلا وبرهانا يستوجب الحذر ، لكن هذه النماذج الثلاثة لم تفشل نتيجة ثنائية اثنية وطائفية مكونة للدولة وإنما سبب فشلها مرده غياب الشراكة المتكافئة في الدولة وحضور الإقصاء والتسلط وغلبة العرق والطائفة .
بالطبع اليمن ليست فيها مشكلة عرقية أو طائفية كتلك المقوضة لثلاثة كيانات فيدرالية أقامت وحدتها على ثنائية العرق والمذهب الديني، لكن ذلك لا ينفي حقيقة الفشل الناتج في الأصل عن سطوة وتمايز واضطهاد واحتكار مجموعة اثنية ودينية لا نتاج ثروة ومساحة شاسعة أو للفدرلة الثنائية الكائنة على أساس أكثرية وأقلية .
محمد علي محسن
الصدق أولاً والفدرلة تاليا !! 1730