بعيد نصف قرن على الثورتين مازالت الخطبة هي الخطبة المسهبة بتعداد منجزات الثورة مقارنة بما كانت عليه إبان الأئمة والاستعمار، إنها مجرد خدمات أساسية وضرورية ،ومع أنها حيوية وأولوية لأية حكومة ونظام يحترم مسؤوليته وواجبه نحو شعبه لا يجد إعلام الدولة غضاضة أو حرج في ذكر المدارس والطرقات والحواجز وشبكات الهاتف والإنارة وسواها . فهذه الخدمات الضرورية لم تعد محل ذكر وحصر، فوسائل الإعلام منشغلة بما هو أكبر وأهم من بناء مدرسة أو مستشفى أو سفلتة طريق، فهذه جميعها لم تعد مشكلة قائمة تعاني منها كثير من المجتمعات الحديثة المكرسة وقتها وجهدها في مشكلات تتعلق بالرفاهية باعتبارها غاية تسعى لتحقيقها كافة الحكومات المتواترة على السلطة. لنفترض أن ثورتي سبتمبر وأكتوبر لم تقما قبل خمسين سنة؛ فهل يعني أن الأئمة في الشمال كانوا سيبقون وطناً وشعباً في صندوق عزلتهم الذي لن تؤثر فيه المتغيرات الحاصلة من حوله؟ لا أعلم كيف يمكن استساغة بقاء وطن وشعب ونظام في تابوت التخلف والجهل والفقر وإلى الأبد؟ كيف لهم جميعا الاستمرار خارج سياق التاريخ والعصر والمنطق ودونما حتى محاولة للحاق بركب المملكات الرجعية السلالية الكهنوتية التي تقوم فيها ثورات جمهورية؟ الاستعمار الانكليزي الذي أغدقناه لعناً وقدحاً ما كان وأعوانه السلاطين والأمراء سيعجزون عن إقامة مدرسة أو مستشفى أو طريق، فهذه جميعها من صميم مهام أي حكم ونظام في العالم، فمثلا ـ وعلى سبيل التدليل ـ مستشفى الجمهورية التعليمي في عدن كان قبل مصادرة اسمه مستشفى انكليزي يحمل اسم الملكة اليزابيث. والحال ينطبق على مستشفيات باصهيب وعبود العسكريين أو سواهما من الادارات والمرافق والمدارس والكليات والمعسكرات والسفارات وحتى الميناءين الجوي والبحري والمساكن والبنوك المملوكة للدولة في عدن ولحج وابين وحضرموت فجميعها منشآت تم بنائها في حقبة الاستعمار . ففي زمن هذا الاستعمار البغيض اقيم المستشفى الحكومي الوحيد في المدينة التي اقطنها اليوم كما وفيها معسكرا الجيش والامن ومجمع مكاتب السلطة المحلية في المديرية وغيرها من المنشآت القديمة التي مازالت حاضنة لإدارات خدمية وتعليمية وبعد مضي نصف قرن على رحيل المستعمر الأجنبي . في عهد الإنكليز أقيمت في منطقتي الريفية الواقعة اقصى المستعمرة أول مدرسة أساسية نهاية الأربعينات كما وفي عهدهم اللعين قدر للفتاة في عاصمة الإمارة " الضالع " الالتحاق بالمدرسة نهاية عقد الأربعينات ومطلع الخمسينات . وفي ايامهم كانت عدن مدينة في طليعة المدن العصرية وفيها من الأحزاب والصحف والنقابات والاستثمار والتجارة والسياحة والانتخابات والبناء العمراني ما يفوق آلاف المرات وضعها الآن وبعد مضي نصف قرن على مغادرة أخر جندي بريطاني . وفي كنف الاستعمار أصيب طفل رضيع باحتباس مجراه البولي, فكان إسعافه بطائرة عمودية تم تحريكها خصيصاً له وبمجرد اتصال من موظف صحي مناوب في المركز الصحي القريب من دار نائب الأمير ، نعم تم إسعاف الطفل إلى مشفى المعسكر وعندما تعذر إزالة وجعه أقلته طائرة الاستعمار إلى عدن . قبل حالة الطفل عبدالله كانت طائرة مماثلة قد هبطت في قريتي القفرة كي تنقذ حياة طفلة سقطت من سطح منزلها وهذا الفعل الإنساني المنقذ لفتاة في ريق عمرها لم نعثر عليه وبعيد حقبة نيفت النصف قرن . اليوم يصادف اليوبيل الذهبي لثورة 14اكتوبر 63م ، ذكرى بلا شك تحمل في طياتها الكثير من المعاني والدلالات والعبر ، فبعد نصف قرن من الزمن ها هو العيد مجرد حفل رتيب وقسري لموظفي الدولة ومجرد خطب رسمية وأناشيد مضجرة وقصائد زندقة متكلفة وصورة مكررة في نشرة الأخبار . مدنا وبيوتنا في ظلام دامس، أبداننا تعاني الهزال والتقزّم، وجداننا مثقل بالمآسي والويلات ، جمهورية سبتمبر تشاطرتها القبائل والعوائل ، جمهورية أكتوبر ضاعت ثورتها في لجة الفوضى ، جمهورية الوحدة وئدت في حرب لعينة مازالت أثارها منهكة ومثقلة ، ثورة فبراير غرقت في مستنقع الثورتين ، الدولة المدنية المنشودة من الحوار الوطني مازالت أمنية ورجاء عالق ومؤجل جراء ممانعة ورفض ذات القوى القديمة الجديدة المجهضة للدولتين والثورتين والتوحد، ومع كل هذه الوضعية البائسة لا يكف إعلامنا عن قدح الإمامة والاستعمار.
محمد علي محسن
ومازلنا نلعن الإمامة والاستعمار!! 1722