الطائرة في حالة حصول خلل فني في الجو ليس ثمة شك أنها سوف تضطر للهبوط.. ومواصلة الطيران بغية الوصول إلى الهدف في أثناء بقاء الخلل هو انتحار، إذاً في هذا السياق يكون قائد الطائرة أمام خيارين - لكن ليس أحلاهما مر - الأول مواصلة الطيران دون الاكتراث بالخطر الذي يهدد المركبة والركاب والقائد، والخيار الثاني الهبوط الاضطراري، وصاحب العقل الحكيم سيختار الخيار الأخير, لكن ما ينبغي أن ندركه تماما دونما تلكؤ أن الطائرة إذا ما اضطرت للهبوط لا يعني هذا أن مسارها باتجاه الهدف سوف يتوقف إلى الأبد؛ بل الطائرة ستحلق من جديد وتصل هدفها، كما لا يعني هبوط الطائرة أنها صارت مركبة من حملة المركبات البرية. أظن أن هذه مسلمة مادية, فالهبوط الاضطراري لطيار الطائرة لا يعني الفشل في التحليق بل يقرأ على أنه الحكمة أو عينها في الهبوط، لأنه هبوط حافظ على الكل العام، والمجازفة في استمرار التحليق ستكون ذاتية مقيتة ستفضي إلى كارثة مميتة. وإذا ما انتقلنا من طيران الآلة المصنوعة إلى طيران الطيور المخلوقة فإن هبوط الصقر إلى الأرض لا يلغي حقيقة صقوريته أي حقيقته المفطورة على التحليق فهو يظل صقرا سواء سار على قدمين أو حلق بجناحين؛ وساعتها لا نهتم لادعاءات الكتكوت إذا تقول زيفا على الصقر! فالكتكوت يظل كتكوتا والصقر صقرا فساعة الاضطرار أو سياقه لا يغير من حقائق الأحوال! فمثلا مفعول الأموال متغير وغير ثابت أي ليس صموده كصمود قيم الرجال فهذا محال!! إن ما يحدث في مسيرة الماديات تتكرر صورته في مسيرة المعنويات؛ فنحن ندرك أن الحق وأهله دائما محلق عاليا في السماء وإذا ما اضطر نازلا إلى الأرض فلا يعني ذلك الهبوط توقف مسيرة الحق وعزوف الحقيقة؛ فصاحب الحق لا ينزل - تثاقلا- بل تفاءلا بتحريك الحياة الراكدة؛ إذ يبقى نزوله أشبه بالماء كلما غاص في باطن الأرض كلما حافظ على نقائه ونفعه (وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)؛ فمكوث الماء النافع في باطن الأرض لا يغير من حقيقة الزبد الرابي الذي يعلو السيل المتسخ. إن الانقلاب الطارئ لا يغير حقيقة الحق الدائم و الثابت، ومستحيل أن يشكل الانقلاب المرتعش "الواقع" دون أن يكون له من الحق الثابت دافع صحيح أن الحق الثابت لا يقبل الارتعاش لكنه يقبل المرونة، وهبوط الحق العالي لا يغير من طبيعة علوه وتحليقه، إنما ذلك الهبوط الاضطراري يعني مرونته التي تثبت بقاءه وحقيقة علوه، فمرونة الحق في قبوله الأخذ والرد ميزة أصيلة فيه، تدعونا إلى الثبات والتفاؤل وتنفي عنه الهون والدنو، ومن يقرأ مرونة الحق في قبوله الهبوط الاضطراري أنه تدني فإنه يغتم وسريعا يسوده الحزن لكن الحقيقة ضد ذلك تماما (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) لهذا لا تصدق المقولة التي تقول: "لأن أكون ذيلاً في الحق خير من أن أكون رأسا في الباطل" لأن الحق كله رأس ليس فيه ذيل ولا ننسى أن الحق هو الله وأصحاب الحق مرتبطون بالله والحق قيمة وأصحابه يكونون قيمة به والقيمة تعلو ولا يتثاقل إلى الأرض إلا الجسد المثقل بالدم المفرغ من القيم.
د.حسن شمسان
الحق كله رأس.. لا ذيل فيه (!) 1369