الطب والطبابة في هذه البلاد باتت مهنة بلا حسيب أو رقيب أو قولوا بلا ضمير أو رحمة، مستشفيات ومستوصفات وعيادات تتعامل مع الآدمية وكأنها ورش لسمكرة وتشليح المركبات العاطلة القديمة، فهذا الطبيب يقتلع خصية مريض وذاك ممرض يبتر ذكر طفل وتلك امرأة يركب لها دم ملوث بفيروس نقص المناعة وهكذا دواليك من الأخطاء الطبية الفظيعة المقترفة وبشكل يومي واعتيادي ودونما اهتمام من وسائل الإعلام أو محاسبة من جهة مسؤولة مؤتمنة على حياة البشر.
سأحدثكم اليوم عن أربع حالات قدر لي معرفة أصحابها عن كثب، اثنان من الأربعة توفيا نتيجة لهذه الأخطاء القاتلة فيما الاثنان كُتب لهما النجاة وبعيد أن كان عزرائيل اقرب لهما من أهلهما وذويهما، فهذا ابن قريتي أحمد قائد الجهمي ـ الرجل العفيف النزيه المهذب المحترم الملازم لبيته وعائلته منذ عقدين من الزمن على انقطاعه عن عمله كمرافق مخلص ولصيق بعلي سالم البيض إلى أن فرقتهما حرب 94م.
صاحبي العليل كابد وجعه بصمت الأتقياء وعفة الشرفاء، فمنذ داهمه المرض بغتة قبل سنوات وهو منهك نفسه وقوته ووقته بحثا عن دواء يبرئ قلبه المتعب المضنى بوصفات الأطباء، فمن مستشفى إلى عيادة؟ ومن أخصائي قلب وباطني إلى أخصائي كشف وأجهزة مقطعية؟ ومن كيس علاقي أدوية من صيدلية الطبيب التاجر إلى روزنامة من الفحوصات والتحاليل المخبرية؟.
لسنوات مضت وصاحبي الوقور الهادئ ينفق قوت أولاده على الفحوصات والأدوية، لم تتحسن صحته بل زادت تدهورا وحرجا، لم يقل له أحد بأن علته ليس في القلب وإنما في عضو آخر، إذ كان قد خضع لعملية قسطرة في قلبه وبعيد عناء ومشقة بذلها كيما يجري هكذا عملية.
التقيته قبل ثلاثة أشهر تقريبا وكان وقتها قد قرر السفر إلى القاهرة، بوجه ضامر مكفهر، وبدن منهك مثقل برزايا كلفة العلاج في الخارج، وخاطر منكسرا قانطا من الطبابة والأدوية، سافر إلى المحروسة بعد أن ظن الجميع بأن فؤاده لن يحتمل البقاء أكثر من أسابيع قابلة؛ لكنه لم يمت ولم يكن منتهاه في سرير مستشفى؛ بل عاد لأهله ووطنه بقلب نابض بالحياة وبوجه مسفر بالبهجة والأمل وببدن معافى وصحيح.
هكذا رأيته قبل بضعة أيام، لم أخف سعادتي برجل عاد من الموت، سألته ـ وبدهشه ـ عن حالته فأجاب: الحمد لله أنا بكامل العافية وقلبي سليم لا يعاني من مشكلة، فكل ما في الأمر أنني مريض بالسكر ولا شيء غيره ونتيجة للتشخيص والعلاج الخاطئين كنت على مشارف موت محتم".
الحالة الثانية فارق صاحبها الحياة في مصر، فبعد حادثة سير دام علاجها مدة سافر صديقي الجميل/ محمد قاسم الشعفي ـ مدير عام الإحصاء والمعلومات في محافظة الضالع ـ إلى أرض الكنانة عله يسترد فيها عافيته وحيويته وقهقهته المعهودة التي عُرف بها زمنا بين أصدقائه ومجايليه في الوظيفة أو ناديه "النصر"، نعم غادرنا والابتسامة تزين ثغره ومحياه الناضخ براءة وألفة وعفوية ليعود إلينا جثمانا هامدا مسجى بالحزن والحسرة والفاجعة.
فبرغم أن إصابته ليست من النوع المميت إلا أن ما تناوله من أصناف الأدوية كان كفيلاً بهلاك فيل هندي ليس فقط بعطب كبد إنسان بسيط عليل بداء السكر الذي طالما عُدَّ صديقا حميما للإنسان، أبو ماجد لم يكن يعلم بأن قاهرة المعز ستكون محطة الأخيرة، لم يكن يدر أبو لطفي بحقيقة مصابه الناتج عن مضاعفات عقاقير سامة تعاطاها خلال وعكته الطارئة التي ألمت به وأقعدته وقتا في فراشه.
فبدلاً من أن يكون سفره لمداواة جروحه الغائرة الظاهرة على جسده المعاق وقتا أو لمعالجة اثر الأدوية في اضطراب السكر؛ أخذته الأقدار بعيدا والى نهاية حزينة ومأساوية لم تكن بحسبانه المتفائل أو كان ينتظرها أكثر المتشائمين.
ما لم يضعه بالاعتبار صديقي المنظَّم والمُرتَّب والصبور هو أن دائه أعظم وأشر من كسور ورضوض حادثة مرور ومن ارتفاع أو انخفاض للسكر، إنه يتعلق بكبده المسموم بعقاقير المضادات الحيوية الفتاكة التي تناولها في موطنه اليمن وبكمية كاثرة ومفرطة كفيلة باختفاء ابتسامة صاحبي المنضبط في عمله وحياته كساعة سويسرية قديمة.
الحالة الثالثة صاحبتها أم أحد معارفي، ففي المرة الأولى قيل بأن شكواها سببه الزائدة الدودية التي تم استئصالها بعملية جراحية سريعة وبمجرد دفع المعلوم، لكن وما أن غادرت المريضة المستشفى الخصوصي حتى عاودها الألم، مقابلة إثر مقابلة، وكشف وتحليل يعقبه تحليل وكشف، ووصفة أدوية تلحقها وصفات فيما الأُم المسكينة وولدها البار لا يعلمان شيئا عن ماهية الداء كي يتسنى لهما شراء العافية وبأي ثمن!.
خطأ فادح من طبيب جشع غير مكترث بحياة إنسانة رجاؤها الشفاء، فلو أن جراحة من هذا القبيل وقعت في بلد آخر لربما قامت الدنيا على رأس الوزارة والحكومة، ولربما استقال الوزير وأقصي المدير ومُنع الطبيب عن مزاولة المهنة؛ لكنها حاصلة في بلاد أهلها أشبه بزائدة دودية كتلك المستأصلة من أحشاء المرأة.
أراد الابن مقاضاة المستشفى والطبيب، لكنه ـ وبمضي الوقت ـ يجد معنويته تفتر وغضبه يكسل، فأُمُّه لم تبرح سرير مرضها، وأنينها يمزق وتين قلبه، ووظيفته معاشها لا يحتمل أُجرة محام، والقضاء يستلزمه مال وفير وزمن بلا منتهى.
نُقلت الأُم إلى مستشفيات عدة في عدن وصنعاء، وفي كل مرة يعرضها على مختص في مستشفيات الدولة يخرج بتشخيص وتحليل ودواء ومرض مختلف ومغاير عما سبقه، في نهاية المطاف يُسمع عن بعثة طبية مجانية في أحد مستشفيات الحكومة، تقابل المريضة الطبيب المختص الذي يقرر وبعد المعاينة والتحليل والكشف بوجود حصوة في المرارة، تجرى العملية وتزال المرارة وبما داخلها من مرارة وراسب.
خفت صوت الأنين برهة، غادرت المريضة المستشفى لا إلى أولادها ومنزلها وإنما إلى دار الحياة الأخرى, لقد ساءت حالتها وإلى درجة حيرت الأطباء عن كنه علتها ووفاتها، فطبيب يرجع موتها للأدوية المرهقة لبدنها الهزيل، آخر يشير إلى أن الوفاة سببها فشل وظيفي للكلى، ثالث لا يستبعد حدوث نزيف دموي داخلي، رابع يؤكد بخطأ العمليتين المزهقتين لروح المريضة، المهم قتلت أم مروان، وعندما نقول قتلت فكل محتوى ملف المريضة يثبت ويدل على أنها قتلت بسبب الاستهتار والعبث الحاصلين في مهنة باتت تجارة وشطارة؛ لا مهنة أصحابها ملائكة رحمة.
الحالة الرابعة سمعتها من قريب أحد المرضى العائدين للحياة بفعل سفره إلى مصر، فبعد تورم مباغت داهم جسده, ظن الأطباء الذين عُرض عليهم المريض بأن سبب ورمه وانتفاخه لم يكن سوى نتاج لخلل كلوي، أعطي دواء الفشل الكلوي؛ بل وأكثر من ذلك إذ تم عمل غسيل كلوي ولحسن الحظ أنها كانت مرة واحدة وإلا لكان في عداد مرضى غسيل الكلى.
سافر إلى مصر وفي أول معاينة للطبيب المختص يكتشف أن مرضه ليس كلويا وإنما رئويا، فسبب الورم المفاجئ ليس عجز في وظيفة الكليتين مثلما تم علاجه في اليمن وفقا وهكذا تشخيص؛ بل سببه خلل وظيفي في الرئتين وهذا الخلل أدى بدوره إلى عودة إفرازات السوائل من الرئة إلى سائر الجسم فكان الانتفاخ انعكاسا سلبيا وطبيعيا لهذا الخلل الوظيفي.
إن ما سردته ليس سوى حالات لمستها بحكم قربي من أصحابها ولكم أن تتصوروا حجم المأساة إذا ما تم رصدها وفي اكثر من مكان؟ نعم لقد تعمدت ذكر أصحاب هذه الحالات لا لشيء غير تبيان لحقيقة الأخطاء القاتلة المقترفة في منشآت صارت أشبه بـ "سلخانات" ذبح للأدمية المنتهكة بسفور وفظاعة.
فإذا هذه الحالات وقعت لأصدقاء ومعارف وفي نطاق ضيق لا يتعدى المكان الذي يقطنه كاتب السطور؛ فكم يا ترى هي الأخطاء المقترفة على طول وعرض البلاد؟ المؤكد أننا إزاء كارثة مخيفة حاصدة لنسبة كبيرة من اليمنيين الذين يقتلون يوميا وفي مستشفيات يفترض أنها لمعالجة الإنسان؛ لا لسلخه وتشليحه وإرساله لمقبرة الموتى.
محمد علي محسن
مستشفيات أم سلخانات لذبح الآدمية؟ 1941