من سنن الله في الخلق ما نلاحظه في الكائنات الحية على إطلاق أحجامها من السعي الدائب إلى التفرد والاستقلال الذاتي, وكأن في ذلك حماية لها من الاندثار في بيئات واحدة وفقدان مسوغ الوجود..لكننا نلاحظ أيضاً أن الجماعات والكائنات الحية التي تعيش في بيئات واحدة تسعى بجدية إلى التلاحم وسد الحاجات المشتركة.. الناس من حولنا يفعلون ذلك لدرء الأخطار الداهمة وتحقيق الأهداف وبلوع الرفاهية العام, وربما تعاونوا لتحقيق نزعة الأنانية والأثرة التي تصاحب عادة كل عمليات الاستقلال.
والحقيقة أننا إذا تأملنا في البيئة العميقة للثقافات الأهلية والشعبية وجدنا أن التلاحم والتواصل وتبادل التقدير ببين الناس يشكل لها ما يشبه الهاجس.. وهكذا فعلى الأرضية التي يصنعها الاستقلال والتضامن يحدث ذلك التجاذب الأبدي بين الاتفاق والاختلاف.
نحن في حاجة من أجل تخفيض ما نشعر به من مرارةالاختلاف ومن أجل التمهيد للتعاذر والتعاون على فهم الأسباب الموضوع التي تدفع بنا إلى الاختلاف وهذه بعضها:
1ـربماكان ما تأصل في نفوسنا من النفور من الاختلاف راجعاً إلى الاعتقادبأن الأصل في حياتنا هو الاتفاق, والاختلاف شيء مخيف, لأنه يضعنا على حافة الاقتتال والفرقة وكلاهما مكروه ومروع, يقول الله تعالى( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)..والاختلاف مصدر لتنويع الفوائد وإغناء الإشكال..إنالاختلاف إن أمكن إيقافه عند حد معين فإنه يصبح مصدراً للإثراءوالإمتاع وتوفير الخيرات والبدائل.
2ـ كثيراً من الاختلاف يعود إلى قصور بعض المصطلحات والتعريفات والرموز الوصفية ودلالاتهاالغائمة والتي تكون محل تحليل وانتقاء..والمشكلة ليست في ذلك وحسب, بل في مشكلة الاستعدادات في العقل البشري.
3ـ كثير من خلافات الناس يدور حول ما يجري في الواقع, حول كيفية التعامل معه وقد صار من الواضح أن المعلومات المطلوبة لمعرفة القضايا التي تستقطب الاهتمام هي دائماً أكثر مما هو متوفر والناس لا يرون في الحقيقة إلا جزءاً يسيراً مما يجري وهم مضطرون من أجل تشكيل رؤية حول الموضوع إلى تعميم ما يرونه على ما لا يرونه, ومن هنا ينشأ الرفض والاختلاف..أضف إلى هذا أننا حين نحاول فهم الواقع وتفسيره فإننا لا نفعل ذلك بشكل مباشر وإنما عن طريق المفاهيم التي نمتلكها حول ذلك الواقع.. عندما تريد أن تقيم رجلاً أنه ممتاز فإن مفهومين للسوية الممتازة والجيدة هو الذي يتحكم في نوعية الحكم الصادر.
محمد المياحي
ثقافة الاختلاف1-2 1359