علامات استفهام كثيرة تشغل بال المواطنين وأسئلة كبيرة تدور في أذهانهم وهم يرون المشهد التأزيمي في محافظة صعده يتكرر ونزيف الدم يعود من جديد إلى الجريان ولغة الرصاص تستفيق من سباتها في صورة عبثية وكوميديا سوداء تعبر عنها الموجهات الدامية والمستمرة منذ عدة أيام بين العناصر الحوثية والجماعة السلفية المتمركزة في منطقة دماج والتي سقط خلالها المئات من القتلى والجرحى رجالاً ونساء وأطفالا مما يلح على السؤال عن أسباب هذه الحرب ودوافعها من جهة .. وإمكانية إيقافها ولجم شررها المتطاير من جهة ثانية بل أن مثل هذا التساؤل يغدو على قدر من الأهمية في ظل موقف الدولة الغامض والذى التزم الحياد إن لم يكن قد ظهر غير مكترث بتلك المواجهات الملتهبة ونذر الفتنة التي تتصاعد وتيرتها من بوابة التحشيد والاستقطاب المذهبي والطائفي التي تغذيه وسائل الإعلام وكأن الدولة قد أرادت بذلك الموقف أن تنأى بنفسها عن أي تفسير يمكن أن يفسر على انه تدخل لصالح طرف ضد الطرف الأخر لذلك تقمصت دور المتفرج في انتظار ما ستسفر عنه الأحداث التي تتخلق على نحو مثير وبالغ السرعة كما لو أن تلك المواجهات هي من أفعال الطبيعة وعلى الجميع أن يدفع ثمن استمرارها من دون حاجة للبحث عن مسبباتها والأخطار التي قد تنجم عنها والزمن الذى قد تستغرقه.
وبعيداً عن الروايات التي ينقلها (الهاربون من الجحيم) في دماج وضواحيها وكتاف وما جاورها والتي تدمي القلب والضمير وكذا إخفاق اللجنة الرئاسية في إقناع طرفي النزاع بوقف الاقتتال والامتثال للغة العقل والابتعاد عن التخييلات المغرقة في التشنج وفشل هذه اللجنة في فك الحصار عن منطقة دماج فان الأمر الذى لا بد من إيضاحه هو أن هذه المواجهات بصرف النظر عن المعتدي والمعتدى عليه تشكل مؤشراً خطيراً عن أن فتنة مذهبية باتت على الأبواب وانه وما لم تسارع الدولة إلى بسط نفوذها على مناطق الصراع وإعادة محافظة صعده إلى حضيرتها وسلطة مؤسساتها وقطع دابر الفتنة والتي ما دخلت دولة إلا وجعلتها خراباً فليس لنا إلا أن ننتظر الكارثة التي ستحيق باليمن وأهله خصوصاً وان هناك من يقوم الآن بالتعبئة المتشددة والحادة كما هو الحال لدى بعض رموز الحركة الحوثية الذين لم يستسيغون وجود مركز تعليمي للفكر السلفي في المحافظة التي يسيطرون عليها ويهيمنون على مفاصلها بعد أن صاروا قوة مسلحة وسياسية تضيق بالأخر ولا ترغب كجماعة ومعتقد ومذهب في أن يشاركها أحداً من القوى التي تختلف مع أجندتها ومطامعها في الهيمنة على مناطق الشمال في صعده والجوف على سبيل المثال.
وفي حالة كهذه يصعب النظر إلى المواجهات الجارية اليوم بين العناصر الحوثية والجماعة السلفية من كونها مجرد صراع بين فريقين يسعى كل منهما إلى فرض سيطرته على الأخر أو أنها مواجهات لا تختلف عن النزاعات القبلية التي تشتعل بين فترة وأخرى بين بعض القبائل على خلفيات ثأر أو غير ذلك كما هو الأمر في محافظات مأرب وذمار وصنعاء وغيرها والتي يسهل حلها عن طريق الأعراف والتقاليد القبلية المتعارف عليها بل هي مواجهات اخطر ما فيها أنها التي لا تخضع لأية أعراف أو قواعد معينة باستثناء العصبية المذهبية التي عادة ما تنتج حروباً مفتوحة لا تنتهي بإحدى النتيجتين (الغلبة أو الخسارة).
وفي مخاض عسير كهذا يستحيل على المرء أن يرسم (السيناريوهات الكارثية) التي قد تنتج عن كل يوم يمر عن هذا الصراع الذى لا شك وانه سيزيد من التصاق الطرفين المتنازعين ببعض الأطراف الإقليمية واذا ما وصل الأمر إلى هذه الدرجة فأننا الذى سنكتشف أن القرار قد خرج من أيدينا وان الفريقين المتصارعين اصبحا مرتهنين لمن يدعمهما من القوى الإقليمية التي يتقاتلان بالإنابة عنها ليغدو الحديث عن القرار الوطني بعد ذلك ضرباً من ضروب الوهم حيث وأن كل طرف سيحاول أن يستثمر كل ما يراه من أوراق لكسب الصراع والضغط على الطرف الأخر ومن يرى نفسه انه الطرف الأضعف؛ فسيحاول أن يعوض ذلك بالدعم الخارجي ومع اشتداد الحاجة للداعمين الإقليمين فلن يكون قرار إنهاء المواجهات بين الحوثيين والسلفيين قراراً داخلياً بل سيكون بيد الأطراف التي تدير الصراع عن بعد وهي التي ستقرر متى وكيف تنهي هذا الصراع طبقاً لحساباتها ومصالحها الأساسية لتصبح الحصيلة الواقعية والأكثر احتمالاً لهذه المواجهات هو اليمن المدمر الذى تفوح منه رائحة الفتنة والدمار والخراب.
ولعله من نافلة القول التأكيد على أن الجماعة الحوثية التي نجحت في أن تصبح قوة سياسية مؤثرة في الساحة الوطنية من مصلحتها أن تتحول إلى كيان سياسي تقبل بالأخر وتتعايش معه وان تبتعد عن أي سلوك خارج سياق العصر والحضارة ومفهوم مدنية الدولة, كما أن من مصلحتها أن يستقر لديها مبدأ الفصل بين النشاط السياسي وفكر الجماعة الذى يركز على المهام الدعوية والاستقطاب المذهبي باعتبار أن التداخل بين الأمرين يجعلها في موضع التقاطع مع فكرة الوفاق الوطني وركائز التعايش مع الأخر المختلف معها في المذهب والفكر والسياسة, كما أن من مصلحتها التوقف عن الاستقواء بالسلاح وفرض نفسها بديلاً عن الدولة في محافظة صعده والتي صار يطلق عليها دولة شمال الشمال بسبب ضعف الحضور الرسمي للدولة في هذه المحافظة واذا ما كان الحوثيين يسعون إلى منافسة الدولة فعليهم؛ أن يعلموا بأن تحدي الدولة وإظهارها ضعيفة وعاجزة عن فرض نفوذها في أي جزء من أجزاء البلاد ليس مصدر فخر؛ إذ أن من المخجل أن يتحدى اليمني دولته اليمنية.
ليس عيباً أن نختلف في مذاهبنا أو في توجهاتنا الفكرية ولكن العيب أن لا نتفق على أن الدم خط احمر وان رفع السلاح في وجه بعضنا البعض باسم الاختلاف المذهبي هو نوع من أنواع الانحطاط وخروج عن الدين والقيم الإنسانية والأخلاقية ولعل اكثر ما يثير الاستغراب أن تحدث مثل هذه الخلافات في بلد تعايش فيه اتباع المذهبين الزيدي والشافعي مئات السنيين دون فرقة أو تمايز يجمع بينهم العيش المشترك وتفاصيل الحياة اليومية وما ينمو على ضفافها من علاقات اجتماعية وأواصر مصاهرة وقربى فضلا عن تشابك الأدوار والمصالح, الأمر الذى ظلت تترجمه علاقات الوئام والتوافق والانسجام التي سمحت على الدوام بتنظيم الخلافات الطارئة والمزمنة تحت سقف الحرص على مصلحة الوطن العليا ووضعها قبل أي اعتبار حزبي أو فئوي أو مذهبي أو مناطقي إدراكاً من الجميع بان الوطن لن يستقيم بمجموعة دون الأخرى وأن هذه المعاني ينبغي أن تسود اليوم وبما يحافظ على نسيج الجبهة الداخلية ويصون هذا الوطن من الفتن والصراعات والخلافات وبما يكرس قيم التعايش بين جميع أبناء الوطن الذى لا يمكن أن نوزعه بين حوثي وسلفي وزيدي وشافعي وصوفي وإسماعيلي وحنبلي وجعفري, لكونه وطن الجميع يضمن لنا المساواة والتنوع وعلينا أن نبعده عن مؤثرات الانقسامات التي تخل بالمعادلة الوطنية.
علي ناجي الرعوي
اقطعوا دابر الفتنة بصعده !! 2144