أشعر بالكآبة والجزع حين أسمع تلكم الأصوات المرتفعة في سنوات ما بعد التوحد والأزمة والحرب وقد عادت مجدداً اليوم منافحة عن توحد سياسي تم انتهاكه والعبث به ولحد أنه بات يستلزمه أكثر من مجرد اتفاق على دولة اتحادية بإقليمين أو خمسة.
ما أفظع ما فعله هؤلاء إبان الأزمة السياسية والحرب وما تلاها من سنوات مريرة حفلت بالنهب، والضيم، والإقصاء، والقتل، والانتهاك، والاضطهاد وسواها من الممارسات العنجهية المقترفة ظلماً وعبثاً باسم الوحدة..
هذه الأصوات القلقة كثيراً على الوحدة هي ذاتها الأصوات الماضوية المشرعنة لاستباحة الجنوب دولة ومؤسسات وثقافة ومدنية وهيبة نظام، كما وهي نفسها الوجلة الحريصة جداً على بقاء البلاد واحدة وإن بمجتمعات متناحرة ممزقة نفسياً ووجدانياً وواقعياً إلى ألف كيان ومسمى..
أصوات هادرة وجسة من مؤتمر الحوار، ومن مقرراته الإيجابية على اليمنيين وعلى دولتهم ووحدتهم ونظامهم السياسي التعددي، وعلى اقتصادهم، وجيشهم، وثروتهم، ودستورهم، وحرياتهم، واستقرارهم.. مخاوف وهواجس وأوهام يطلقها أناس احترفوا تسويق الوهم كسلعة رابحة مدرة لهم بالمكاسب والامتيازات والمناصب وغيرها من المغانم الشخصية المحققة لهم في هكذا أزمات ومشكلات وحروب.
لو أن هذا القلق صاحبه الدكتور المقالح أو الرويشان أو قادري حيدر أو محمد المتوكل أو حاشد أو عبدالباري طاهر أو سلطان السامعي أو أبو أصبع أو.. الخ من الأسماء المحترمة في ذاكرة الجنوبيين؛ لكان مقبولاً ومستساغاً، فعلى اقل تقدير سينظر لهذه الهواجس بنوع من التفهم والجدية.. أما وان تكون صادرة عن أناس لطالما أمعنوا بالكذب والافتراء، وفي تضليل الرأي العام واعتساف الحقيقة وتشويهها طوال حقبة عشرين سنة مضت على وجودهم في وظائفهم؛ فذاك أمر لا يحتمل قبوله وتصديقه.
نعم قلقون جداً من الفدرلة الثنائية، ومن فدرلة الثروة والسلطة والقوة، خائفون على الوحدة ومن نجاح مؤتمر الحوار، ومن فريق القضية الجنوبية ولجنة ثمانية زايد ثمانية، ومن بن عمر وياسين وعلي ناصر والبيض والعطاس، وحتى رئيسي الدولة والحكومة عبد ربه وباسندوه المستراب بوحدويتهما التي هي موضع اختبار وشك.. لماذا خشيتهم من تجزئة اليمن وليس من غياب الدولة؟.. لتكن معضلة الجنوب كامنة في وحدة سياسية تم انتهاكها والعبث بها مذ لحظة توقيعها؛ فهل يعني أن مشكلة الشمال سببها الوحدة أم فقدان الدولة؟.
هذه الأصوات المسكونة بهاجس ذهاب الجنوب إلى استعادة دولته وتقرير مصيره ولو من بوابة الفدرلة لم تقل لنا لماذا لا يفزعها غياب الدولة في محافظات الشمال؟, ولماذا لا يكون حديثها منصبا في مسألة إقامة الدولة وبسط نفوذها على كامل مساحة الشمال المستولى عليها من أشياخ القبيلة والإقطاع والمذهب؟, ألم تفشل الوحدة نظريا وواقعيا نتيجة لهذه الأصوات الرافضة اليوم لمؤتمر الحوار ولنتائجه وكذا لبناء الدولة المدنية وللعدالة الانتقالية والحكم الرشيد وهيكلة الجيش؟.
يحدثونا وبإسهاب وفجور عن خطر الفدرلة ونظامها- الذي كان مزمعا إحلاله قبل عقدين من الزمن- فلولا ممانعة هذه القوى التقليدية المثبطة الآن لكل فكرة وقرار جريء وشجاع من شأنه بقاء اليمن موحداً وفي إطار دولة اتحادية مستقرة قابلة للحياة؛ لما كان حالنا بهذه السوءة والتردي؛ ولما رأينا الوحدوي مطالبا بالتجزئة فيما الانفصالي قولا وممارسة حاملا لراية التوحد.
إنهم وبدلاً من أن يقفوا بوجه القوى القديمة الرافضة لبناء دولة المواطنة المتساوية في تعز أو سواها من محافظات الشمال, رأيناهم يلهجون بمخاوفهم وجزعهم على الوحدة المفقودة أصلاً في نفوس وحياة غالبية الجنوبيين.. يحدث هذا وفي وقت مازلنا نعاني منه من تبعات هذه القوى المتحالفة في الأزمة والحرب ومن ثم في نهب وتدمير واستباحة واستحلال الجنوب شعباً وأرضاً ودولة ومؤسسات وثقافة وثروة وقيمة وتاريخاً..
فكل هذه التركة المثقلة لكاهل الحوار والمتحاورين ما هي إلا نتيجة لهيمنة هذه القوى الساخطة المتوجسة القلقة من مؤتمر الحوار، ومن توزيع السلطة والثروة ووقف العبث والكذب والتضليل، ومحاسبة القتلة ولصوص الثروة والدولة، واستعادة روح الوحدة والجمهورية ، فهذه جميعها بلا شك مفردات مخيفة مرعبة تستوجب المقاومة والرفض من هذه القوى القديمة الجديدة المستأثرة زمنا بكل مقدرات الدولة وإمكانياتها ونفوذها..
ولأن هذه القوى أدمنت العيش خارج سياق دولة، وبعيداً عن محاسبة ومساءلة النظام والقانون؛ فإن ما تقوم به في الحاضر باسم الوحدة أو غيرها ليس إلا محاولة بائسة لوقف عجلة الدولة اليمنية المنشودة.
نعم هذه القوى ربما أفلحت في وئد هذه الدولة بعيد التوحد وقبله ومن خلال أزمات وحروب، وربما قد تفلح في إطالة أمد الحوار، ومرحلة الانتقال ؛ لكنها أبدا لن تنجح في وقف التاريخ أو أعادته إلى خضم صراع عنيف كلف اليمن واليمنيين خسارة فادحة وطائلة تنمية واقتصاداً ووحدة وإنساناً ومعيشة وديمقراطية واستثمارا وكرامة.
محمد علي محسن
أصوات من الماضي اللعين!! 1720