قال لي معاتباً:" ما زلت يا محمد مع مؤتمر الحوار؟, صدقني لن يفلح مؤتمر مع هؤلاء- يقصد الشماليين- وسيكون مآل مؤتمر الحوار أشبه بثورة الشباب، وبوحدة البلاد، وبثورة سبتمبر وجمهوريتها، فكل هذه المسميات الكبيرة تم احتواؤها والالتفاف عليها من أساطين ما قبل الدولة، والنظام، والثورة، والجمهورية، والوحدة، والدستور، وغيرها من الأشياء الغريبة الدخيلة على جغرافية ومجتمع مازال خارج سياق التحضر والتمدن والتدويل والتوحيد".
مثل هذا الكلام لا أعده جديداً, فلطالما سمعته أو قرأته، خذوا مثلاً ثورة الضباط الأحرار 26سبتمبر 62م، فهذه الثورة وبعيد نصف قرن عجزت جمهوريتها عن تحقيق هدفها الأول المعلن في بيانها المذاع لجماهير الشعب بدءاً من يوم 28سبتمبر، فلمن لا يعرف الهدف الأول ها أنذا أعيد كتابته مثلما تم إذاعته من إذاعة صنعاء طوال الأيام اللاحقة لثورة 26سبتمبر "القضاء على الحكم الفردي المطلق وكذا على النفوذ الأجنبي".
لست هنا بمقام المنافح أو القادح لمؤتمر الحوار، لكنني ومن خلال قراءتي لتاريخ ثورة سبتمبر أجدني قلقاً وحائراً من تكرار منوال الإخفاقات والهزائم المثبطة لمسيرة جمهورية سبتمبر في الشمال, وذلك قبل أن تصير معيقة ومعرقلة لنهضة الجمهورية الواحدة التي مازال مصيرها رهن مؤتمر الحوار إذا لم نقل مرحلة الانتقال عامة.
أعتقد أنه وما لم يتم تصحيح الخطأ الكبير الذي وقع به الضباط الأحرار؛ فإن مؤتمر الحوار سيكون مآله مآل مؤتمرات الأمس البعيد في عمران، وخمر، وصنعاء، وحرض، وغيرها من المناطق التي شهدت مثل هكذا مؤتمرات، أو لقاءات واتفاقات بين الفرقاء السياسيين، فطوال سنون ما بعد ثورة الضباط وهذه الجمهورية الفتية في مرمى سهام الفرقاء المختلفين، فسواء المتجمهرين أو المتملكين، فكل واحد منهما أخذ ينهش ويبيع ويستملك ويتحكم بمقدرات هذه الجمهورية الناشئة..
هذا الخطأ حصل وفي وقت حرج كان يستلزمه تحالف ما بين قادة الثورة الجدد على السلطة وبين أشياخ القبيلة والوعظ التقليديين المستحكمين ببوصلة مجتمع منغلق بجهله وفقره وتقاليده وأعرافه ومعتقداته الموغلة بالعبودية والاضطهاد والولاء الأعمى، وقتها ربما لم يدرك الضباط الأحرار أنهم كمن يستجير من طاغية مستبد وأعوانه الظلمة بشيوخ مال وسلطان ونفوذ، ربما غفل قادة هذه الثورة أنهم كمن يمد يده لفاه وحش متربص بفريسته لا كمن يمتطي صهوة جواد وديع وأليف.
وإذا كان الرئيس الشهيد/ إبراهيم الحمدي قد غفل هو أيضاً، أو انه استهان بقوة وتأثير أشياخ القبيلة والمذهب الذين أفلح بتقليم نفوذهم وسطوتهم على الدولة والجيش ولو لوقت قصير لم يمكنه من إتمام مهمة بناء الدولة؛ فإن المشير السلال وزملائه الأحرار أعطوا هؤلاء فوق ما يستحقون من الاهتمام والسلطان، النتيجة بالطبع كارثية ومثقلة لكاهل الدولة والتوحد، وللتعددية والديمقراطية، وللحوار وللمرحلة الانتقالية.
فيكفي الإشارة هنا إلى "منح المشايخ سلطة ونفوذ يوازيان سلطة الحكومة والدولة، حدث ذلك وعلى غفلة من الزمن، إذ أن إنشاء مجلس الدفاع من مشايخ القبائل-مشايخ الضمان- وتفويضهم الدفاع وحماية المناطق الحدودية كان من نتائجه رفع من دور المشايخ في الحياة السياسية, وهذا بدوره خلق بيئة صالحة للنزاعات المحلية، كما وأوجد ازدواجية السلطة".
"فمن مشايخ الضمان تم إنشاء مجلس الدفاع ليتساوى الشيخ مع الوزير الحكومي، وبتفويض من مجلس قيادة الثورة توجب على الشيخ ممارسة سلطة القرار على المنطقة الواقعة في نطاق نفوذه".. هذه السلطة الممنوحة للمشايخ جعلت الكثير من الباحثين والمؤرخين لتاريخ اليمن الحديث حائرين, بل وهازئين من هذه الخصوصية اليمنية العجيبة التي تميزت بها وثيقة ثورة سبتمبر التي هي بمقام الدستور حينها.
البعض عد إشراك المشايخ في النظام الجديد ضرورة لا مناص منها بالنسبة للضباط الأحرار وفي واقع ملتبس ومعقد، ومع كل هذه المبررات الموضوعة اليوم لا أظن أن أحداً بمقدوره دحض حقيقة ما حدث لهذه الثورة والجمهورية من انتكاسة مميتة وقاتلة جعلتها وحتى اللحظة غير قادرة على إقامة الدولة ومؤسساتها وتشريعاتها وقوانينها وأنظمتها..
فمثلما كان مشايخ القبيلة قوة مقوضة لكل حكومات جمهورية سبتمبر التي تم إفراغها من محتواها بانقلاب 5نوفمبر 67م الذي كانت المشايخ وقواها القديمة قد استولت على هذه الجمهورية إلى أن جاء الرئيس الحمدي الذي شرع بتأسيس هذه الدولة, إلا أن الوقت لم يسعفه، إذ كانت القبيلة قد استجمعت قواها ثانية منقضة على رأس الدولة، ومقوضة لمشروعه التغييري، ومستولية على كامل مقدرات وإمكانيات الدولة..
فلم يأت التوحد إلا وقد استحوذت القبيلة على كامل جمهورية الشعب في الشمال قوة وثروة وسطوة؛ بل وزادت بابتلاعها لدولة ومؤسسات كانت قائمة في الجنوب ومن خلال حرب مأساوية مازالت تبعاتها الكارثية تلقي بظلالها على الحاضر البائس المراد تجاوزه والخروج منه ولو اقتضى الأمر مشاركة ذات القوى المنهكة والمدمرة للثورة والجمهورية وللدولة وللوحدة.
في تناوله سابقة كنت قد طرحت سؤالاً واقعياً ومنطقياً, مفاده قدرة ثورة 11 فبراير 2011م على تصحيح معادلة مختلة عمرها من عمر ثورة سبتمبر, فمما يحسب لثورة 14أكتوبر 63م هو أنها وحدت 23كياناً, أشبه بكانتونات إقطاعية مستملكة من 23سلطان وأمير وشيخ, وفي كيان واحد، ودولة واحدة ذات سيادة وقوة وسلطة مهابة ونافذة على كامل ترابها وشعبها وحدودها.
نعم, دولة قد نختلف حول طبيعة أنظمتها المتعاقبة، وكذا حول مآلها الحزين والمؤلم الذي آلت إليه الآن؛ لكننا وعندما نتأمل وبموضوعية وتجرد ما حققته وأنجزته ثورة أكتوبر من دولة ومقارنتها بثورة سبتمبر وما حققته؛ فإننا لا نجد ثمة مقارنة بين الدولتين.. الفارق ما بين الاثنين يمكن العثور عليه وبكل سهولة وفي مؤتمر الحوار، فمشايخ وسلاطين وأمراء الجنوب بالكاد تسمع صوت أحدهم قائلاً: أعيدوا لي مسكني, أريد أرضي المستولى عليها من شيخ نافذ, أريد استعادة دولة الجنوب..
لا أقول هذا الكلام من باب المزايدة على مشايخ القبيلة في الشمال الذين لا يبدو عليهم أنهم سيدعون مؤتمر الحوار يمضي وينجح.. خذواً أمير الضالع وعترته التي بالكاد أفلحت باستعادة ديارها العتيقة والمتهلهلة، فبعد شريعة طويلة ومكلفة قدر لها استعادة مساكنها كي تقطنها وتقيم فيها؛ بل وأكثر؛ إذ كانت هذه العائلة الأميرية ومن منفاها تبرعت وساهمت ومازالت يدها داعمة وممدودة لفعل الخير وللتعليم والصحة ووو إلخ, ودونما منة أو تفضل أو دعاية أو مقابل أو مطالبة بحق أو سلطان.
وإذا كان سلاطين وأشياخ وأمراء الجنوب بالكاد الواحد منهم تسمعه مطالباً بدولة ونظام؛ فلماذا يستكثر علينا البعض بمطالبة مشايخ الشمال بالخضوع للدولة؟.. مفارقة صارخة وصادمة، فمشايخ ركبوا الثورة سفاحاً واغتصاباً, فاقترنوا تالياً بالدولة مكونة من زواجها منها ثروة ومكانة وقوة، يقابل ذلك سلاطين ومشايخ وأمراء- وأيضاً- رؤساء سحقتهم الثورة وأكلتهم الدولة ولدرجة أنها لم تبقِ لهم شيئاً.
* تاريخ اليمن المعاصر مؤرخون سوفيات
محمد علي محسن
مشايخ أكلوا جمهورية!! 1956