الوحدة بذمتكم؛ فالفدرالية الثنائية أو حتى الخماسية مؤامرة خطرة مآلها انفصال الجنوب، ما من بيان إلا ويجب تضمينه بالعبارة السحرية " حفظ الوحدة "!. ما من خبر أو تصريح رسمي إلا وصيانة الوحدة تتصدر ديباجته!.
مؤتمر الحوار الوطني كأن مهمته الأساسية إبقاء الجنوب في اطار الوحدة لا إقامة الدولة في مساحة لم تعرف قط سلطةً لدولة أو سيادة.
سؤال بديهي ومنطقي: هل مشكلة هذه البلاد كامنة في فشل توحدها السياسي, أم في الدولة الواحدة التي لم تقم لها قائمة أو أنها في طريقها للوجود؟.. اعتقد أن الإجابة على هذا السؤال الجوهري هذا يمكنها إراحتنا وإراحة الكثير ممن أفزعتهم مسألة الفدرلة بكونها بعبعاً لتجزئة لا توزيعاً لسلطة مركزية محتكرة تاريخياً للثروة والقوة والقرار والمعاش والوظيفة وحتى نشرة أخبار التاسعة إذا لم نقل استخراج بطاقة هوية أو علاوة شهرية..
نعم إن الفزع الأكبر كامن في فقدان الدولة الوطنية المحققة للوحدة العادلة المستقرة المؤهلة لوطن أخر تسود فيه المواطنة المتساوية والحرية الشخصية والحياة الكريمة الخالية من الإقصاء والاضطهاد والتمييز المحتقر لآدمية الإنسان وسواها من الممارسات العبثية المشوهة لروح التعايش والتسامح المجتمعي.
إذا ما كان التوحد هو المشكلة الرئيسة؛ فذاك يعني حق الجنوبيين باستعادة دولتهم الشطرية، أما وإذا ما كانت المشكلة جذرها الأصل غياب الدولة الواحدة الموحدة لكافة اليمنيين جنوباً وشمالاً؛ فذاك ما ينبغي الإقرار به وبمعالجته بصدق وشفافية في مقررات مؤتمر الحوار وفي آلياته الضامنة لتطبيق هذه المخرجات في المستقبل باعتباره المحك العملي والواقعي لحل المشكلتين جنوباً وشمالاً، وحدة ودولة، ثورة وحراكاً.
ليت اقتصرت المسألة على فرقاء مؤتمر الحوار؛ بل وحتى الرئيس المخلوع واتباعه وقواه القبلية والعسكرية والدينية والعائلية التي ما فتأت الآن حاملة لراية حفظ الوحدة ومقاومة كل فكرة من شأنها إصلاح وتصحيح المعادلة الوحدوية الخاطئة نتيجة لممارسات النظام السابق وأعوانه الذين يتباكون اليوم على هذه الوحدة التي قتلوها ذبحاً وقهراً ونهباً وسلباً وغصباً ومن ثم أهالوا التراب عليها؛ فكيف لهم الحديث عن وحدة إذا كانوا هم من نحرها ظلماً وجوراً وعدواناً؟, ومتى كان الجلاد القاتل المغتصب رؤوفاً ووثوقاً بإنصاف ضحيته؟- لا أعلم.
مؤتمر الحوار شارف على نهايته الماراثونية.. أيام قليلة ينتظر منها حسم مسألتين في غاية الحساسية والأهمية؛ المسألة الأولى تتعلق بالدولة وإمكانية إقامتها وبسط نفوذها وسيادتها على كامل جغرافية اليمن، المسألة الأخرى وتتعلق بشكل الدولة الاتحادية وسبل تحقيقها جنوباً.
شخصياً أجدني منحازاً لخيار الفدرلة متعددة الأقاليم، ومع قناعتي هذه لا أرى في الفدرلة الثنائية خطراً مهدداً لتوحد لم يعد له وجود في وجدان المتوحدين وفي أذهانهم وحياتهم، فالخطر الحقيقي يأتي من فقدان الدولة المركزية ومن نخرها وهدِّها واستباحتها من ذات القوى القديمة الجديدة المتسلطة الرافضة في الأمس واليوم لكل محاولات بناء الدولة الموحدة الناهضة المستقرة.
نعم الدولة ومدى قدرة النخب المتحاورة على إقامة هذه الدولة المؤسسية الحديثة في المستقبل، فضلا عن الوحدة وما أصابها من ضرر قاتل لصميمها وممزق لنسيجها، فالدولة والوحدة هما في المحصلة ضحية لذات القوى الممانعة الحائلة دون إنجاز الدولة.
الشيء الإيجابي هو أن مؤتمر الحوار يحظى بدعم ورعاية إقليمية ودولية، وهذه المزية يجب استغلالها من قوى الحداثة كي لا تكرر خطأ التوحد الارتجالي أو حوار وطني تمخض عنه وثيقة عهد واتفاق لم يتم تنفيذ بندها الأول المتمثل بالقبض على مرتكبي الاغتيالات السياسية؛ فكانت النتيجة حرباً كارثية مازالت نتائجها المأساوية غائرة في أعماق الإنسان وفي واقع المجتمع الممزق نفسياً ووطنياً وجغرافياً وفكرياً وسلوكياً.
السؤال الملح والمكرر: لماذا القلق يأتي من شكل الدولة ولا يكون من فقدان الدولة لسلطاتها وواجباتها؟, فعلى فرضية أن الفدرلة الثنائية تعني انسلاخاً للجنوب؛ فهل اغتصاب الدولة ومصادرة سلطتها ومقدراتها يعني وحدة؟, لست قلقاً على توحد مازال مفقوداً، لذا أظن فدرلة السلطة والثروة هي مقدمة لاستعادة هذه الوحدة.
ما أخشاه حقاً سببه هذا التعنت المقيت وهذا الاصطفاف القديم الجديد المقوض للدولة الاتحادية وللعدالة الانتقالية؛ فهل هنالك ثمة عاقل أو قولوا ثائر يمكنه قبول فكرة التحالف مع نظام عائلي قبلي فاسد خلعه الشعب بثورة عارمة وبنفوس غالية ودم لم يتوقف نزيفه حتى اللحظة؟, إذا ما كان الراعي وسلطان البركاني وغيرهما ممن كانوا سبباً مباشراً في ثورة اليمنيين هم السلطة الشرعية الوحيدة المؤهلة لبناء الدولة المدنية القادمة ولحمل راية حفظ الوحدة؛ فعلام ثار اليمنيون؟ وعلام الكلام عن الفدرلة ومؤتمر الحوار والعدالة الانتقالية والحصانة ووو إلخ؟..
محمد علي محسن
الدولة والوحدة ومنتهى الحوار 1753