اليمنيون لديهم تجربة مريرة مع عملية الانتقال، فخلال أربعة أعوام تالية لقيام دولة الوحدة يوم 22مايو 90م عرف اليمنيون ولأول مرة معنى الانتقال العبثي المنهك، فمن توافق شركاء التوحد الذي لم يدم بضعة أشهر إلى الخلاف المحتدم والطويل، ومن التوحد السلمي وتقاسم السلطة مناصفة إلى فرض التوحد بالقوة والاستئثار بهذه السلطة من الطرف المنتصر في معركة حفظ الوحدة، ومن وحدة التطلع إلى المستقبل إلى الهرولة صوب التجزئة.
نعم.. عشنا وشفنا وطناً وشعباً بلا قيادة واحدة وبلا خريطة واضحة المسار والمعالم، فضلاً عن هذه الأشياء بلا إرادة أو رغبة متوافرة لدى رأس السلطة كي يكون رئيساً لدولة كبر حجمها وزادت مشكلاتها وتحدياتها وكي يكون رباناً حقيقياً لسفينة وطن أوشكت على الغرق وفي محيط لج مضطرب وظرفية عصيبة لا تحتمل المجازفة أو الانتظار.
ولأن وحدة اليمن ليست كوحدة ألمانيا، كما ورئيس هذه الدولة الموحدة "علي عبدالله صالح" لا يماثل مطلقا المستشار "هيلموث كول".. فإن حظ اليمنيين هو الفشل والإخفاق، فقيادة بلد متوحد أظنها أكبر بكثير من قدرات رئيس من سوء طالعه وطالعنا أنه وجد في المكان والزمان الخاطئين؛ فكان من تجليات هذا الخطأ التاريخي مرحلة انتقالية عبثية أفضت بالجميع إلى أتون أزمات سياسية قاصمة وإلى حرب كارثية مكلفة مازال وقعها ثقيلاً ومنهكاً للمتوحدين.
فبعد ربع قرن من الزمن على التوحد وعلى مرحلة الانتقال وعلى حوار الفرقاء وميثاقهم وحربهم, مازالت الدولة الوطنية الموحدة مثخنة بالمشكلات والأخطاء القاتلة لروحها وكيانها، فممانعة الأطراف المنتصرة في حرب صيف 94م وإصرارها على حفظ ما حققته من مكاسب ومغانم سياسية وعقارية ووظيفية واستثمارية ومالية ما كانت ستحصل عليها لولا ظفرها في اجتياح الجنوب عسكرياً.
هذه المقاومة السلبية حالت دون اتخاذ قرارات سياسية جريئة وموضوعية وسريعة من شأنها حل ومعالجة فشل المرحلة الانتقالية في تجاوز أخطاء توحد عاطفي ارتجالي راديكالي بيروقراطي رأسي ووقتي، فهذه الحلول كان يتوخى منها بعث رسالة إيجابية مطمئنة جنوباً.
ومع أهمية هذه الحلول الموضوعة لشريحة واسعة فقدت ثقتها وحتى صلتها بالحوار وعملية الانتقال تم التعامل معها بلؤم وخسة ومخاتلة لا تستقيم مع طبيعة المرحلة الانتقالية الثانية الجارية في البلد، ولا مع مؤتمر الحوار الثاني المزمع أنه أوشك على الانتهاء، ولا مع سياق العهد الثوري الطائح بالنظام العائلي القبلي الجهوي.
فعلى أهمية ما أحدثته ثورة الشباب من تغيير طال رأس النظام وبعض من أقاربه ورموزه إلا أنه وبالنظر لحجم القضايا الحقوقية والسياسية المعول معالجتها في الوقت الحاضر الثوري وإبان فترة الانتقال؛ فإن الحلول الموضوعة لم ترتق لمستوى هذه القضايا الوطنية، ولعل النقاط الـ11 المقترحة من لجنة الحوار لدليل وبرهان على فقدان الجدية والمصداقية والحسم وإلا لكان الجنوب في وضعية مختلفة عما هو عليه الآن من بؤرة طافحة بالغضب والإحباط والمقاطعة للعملية السياسية.
وإذا كانت المرحلة الانتقالية التالية للوحدة قد فشلت وقتها نتيجة لغياب الإرادة السياسية القادرة على تنفيذ اتفاقيات ودستور دولة الوحدة كما وبمقدورها تطبيق نصوص وثيقة الحوار الوطني "العهد والاتفاق" فإن المرحلة الانتقالية الحالية ينبغي أن لا تكرر مأساة مرحلة ما بعد التوحد.
نعم الرئيس هادي غير الرئيس صالح، والأمس لا يشبه اليوم؛ لكن ذلك لا يعني أن مشكلة المرحلة الماضوية لا تماثل مشكلة المرحلة الحاضرة، فتوافق الأمس البعيد سرعان ما تكشفت سوءته مع أول ممارسة واقعية للسلطة ومع أول اغتيال سياسي وأول استحقاق ديمقراطي لأول سلطة تشريعية 27 إبريل 93م.
ومع ما كرسته صناديق الانتخابات والاغتيالات من اصطفاف جهوي مقيت أفضى بمجمله إلى انقسام عميق وحاد وخطر لم يفلح الحوار الوطني ولا وثيقته الممهورة بتوقيع كافة القوى السياسية يوم 20فبراير 94م في العاصمة الأردنية لأن تكون بوصلة نجاة منقذة لوطن على تخوم الغرق، كما ولم تستطع وقف الحرب الدائرة رحاها في أذهان مخططيها ومموليها قبل أن يطلق العنان لعجلتها في الدوران.
قلت مراراً بأن الرئيس هادي لن يكون نسخة من سلفه الرئيس صالح، ففي كل الأحوال هنالك ثمة فارق بين الرجلين، فهادي ـ وعلى مساوئ مرحلة الانتقال ـ يستحيل أن يكون بسوءة سلفه، فصالح توافرت له فرصة لأن يكون رئيساً لدولة موحدة وبظرفية تاريخية قلما تتكرر، ومع ذلك أبى إلا أن تكون هذه الدولة مجرد إقطاعية تتملكها عائلته وأقاربه وأعوانه.
الرئيس هادي ـ أياً كان تفكير وسلوك حاشيته المحيطة به الآن وغداً، وأيا كانت رئاسته محفوفة بأزمات ومشكلات لا تنتهي ـ فإنه في الأغلب لن يعقر الدولة قرباناً لعائلته أو أقربائه؛ بل وعلى العكس فثقافته المستمدة من إرث طويل في تبجيل واحترام الدولة والنظام, لكفيلة له لأن يكون رئيساً لدولة وعلى كل اليمنيين، ناهيك أن المرحلة وظروفها بالكاد تقبل بتمديد مشروط أو انتخاب لمرة أو مرتين كحد أقصى ونهائي.
ختاما يستوجب الإشارة إلى أن المهم للرئيس هادي هو الاستفادة من درس وتجربة سلفه الذي مثّل وجوده في رأس هرم دولة الوحدة خطأ فادحاً ارتكبه شركاؤه وأفضى في النهاية إلى فشل مرحلة الانتقال والحوار ومن ثم الوحدة، وإذا ما افترضنا بصحة أن الرئيس صالح بات من الماضي؛ فهل يوحي لكم فعله بأنه كذلك؟.
فتوافق التوحد يحسب له إحالة التوحد إلى كابوس رهيب اسمه مجازاً " الفترة الانتقالية "، وإلى مسلسل اغتيالات وأزمات متفاقمة، وإلى حوار بلا معنى، وإلى اتفاق مخاضه حرب شعواء قضت على الوحدة وأعادت الجنوب وأهله إلى كنف ما قبل الدولة والثورة على السلطنات والمشيخات.
ما أخشاها هو أن يكون توافق الحاضر قاتلاً ومحبطاً ومعيقاً لعملية الانتقال، فبقاء نفوذ الرئيس السابق وتأثيره المتغلغل في مفاصل وصميم المرحلة الانتقالية الحالية- من خلال شراكته في الحكومة ومؤتمر الحوار- يقلقنا ويجعلنا نجزع على هذه البلاد من أتون فشل جديد، فلكم أن تتوقعوا لحجم الكارثة في حال بقى الرئيس المعطل والمعيق لعملية الانتقال في الأمس هو ذاته الشريك في الحكم وهو ذاته المعارض والمعطل والمعيق؟؟.
محمد علي محسن
اليمن ما بين حوارين وانتقالين !! 1730