أُمي تسألني باكيةً عن حال شقيقي الأصغر –الدكتور- ترك وظيفته وعمله في الصحة قرباناً لصفة شيخ منحته إياها سنوات من المواظبة المجتهدة الصادقة النقية في جامعة دماج السلفية وعائلته المحاصرة في وادعة، كما ولا تنسى حتى وهي في لحظة هلعها على نجلها وبناته وزوجته أن تسأل ما إذا كان معاش والدي رحمه الله قد بات متوافراً في مكتب البريد كي أستلمه لها وأقوم كالعادة بتسديد فاتورة هاتفها الثابت في القرية وكذا الكهرباء وإرسال ما تبقي أو حفظه أمانة لحين حاجتها؟.
إبن عمي وزملاء له يتطوعون للجهاد في جبهة كتاف وبلسان لاهج "لبيك يا دماج".. أحد معارفي أخذت منيته الحادثة الإرهابية الواقعة في مستشفى العُرضي.. جيراني الملتاعون الوجلون من "الهبّة الشعبية" هرعوا الأيام الفائتة لشراء وخزن القمح والغاز والزيت والأرز وسواها من المواد الضرورية.
فالبلاد مقبلة على هبّة لن تذر لنا شيئاً أو سوقاً.. أبنائي يسألوني كل مساء السؤال المعتاد: هل سنذهب غداً إلى المدرسة أم سنبقي في المنزل؟ وأرد قائلاً: لسه المدرسة أبوابها مغلقة وطريقها محفوفة بزخات البنادق وزحام الأدخنة المتصاعدة من احتراق الإطارات، فضلاً أن الشوارع باتت خطرة, خالية إلا من أكوام القمامة وطفح القذارة.
أنهض في الصباح على نبأ شؤم محزن، أقضي قيلولة الظهر مبحشماً بعشبة شجرة الزقوم "القات" مع رفاقي المحششين، هكذا ومذ ثلاثة أعوام تقريباً على ثورة الشباب وأنا وأصدقائي نصحو على فجيعة أو تظاهرة وعصيان أو أننا نمضغ ورق الكيف على ما تنشره الصحف وتبثه القنوات.. بمعنى آخر راح من عمرنا ثلث قرن في الكذب والتضليل والنهب، والآن فوقها سنوات ثلاث فيما المسلسل الفنزويلي مازالت حلقاته مستمرة وبلا منتهى قريب.
نتطلع إلى صنعاء فلا نعثر فيها غير الملل والسأم والإحباط القاتل، فمن ضرب أبراج الكهرباء وأنابيب النفط، إلى إرهاب ورهاب القاعدة، إلى سخافة وسماجة الرئيس المخلوع وأعوانه وقنواته ومواقعه وأخباره وأمراضه النفسية الطافحة بالانتقام والثأر من كل شيء، إلى ماراثون مؤتمر الحوار وخلافات مكوناته المحتدمة، إلى انسحابات وتحالفات ومن ثم عودة وتوافق، إلى مشادات وبيانات واختطافات واغتيالات وهكذا دواليك.
وإذا ما عادت محطة مأرب للخدمة وتوقف التخريب لساعات أو أيام انتقل الحديث إلى عمليات اغتيالات، وإلى معركة الحوثية والسلفية في صعدة وعمران، أما في حال الهدنة مع الكهرباء والاغتيالات والاقتتال؛ فيكون مؤتمر الحوار وتعثره مادة مستهلكة يومياً أو أننا نخوض معركة جدلية ننقسم فيها ما بين كثرة متشائمة أو قلة متفائلة بنجاح الحوار، وبعبور البلاد من وهاد الفوضى والإرهاب والتخريب والانقسام إلى الدولة الاتحادية الجديدة المستقرة الناهضة من حالتها الراهنة.
لم أحدثكم بعد عن حراك الجنوب ولا عن مليونيات استعادة وتقرير المصير؟ كما ولم أتطرق إلى عصيانات الغصب وتهديد السلاح أو حوادث القتل والسلب والتقطع المقترفة من عصابات احترفت مثل هذه الأعمال البلطجية العبثية التي عادة ما تكون فاتورتها مكلفة ومشوهة لنضال الحراك، كذلك لم اشر لكم بمعاناتي وجيراني وأناس مدينتي القابعة اسفل اهتمام الجميع.
نعم.. نعيش أوقاتاً عصيبة حافلة بمشاهد تراجيدية لا تخلو أحياناً من فكاهة الكوميديا، فمن خطبة الجمعة المحرضة على الأحزاب والدحابشة إلى تباب ودشم وأطقم الثوار المناوئين للاحتلال؟ ومن تشييع جثمان شهيد قُتل غيلة وغدراً وعدواناً إلى جنازة لص أو قاتل ليس بوسعك سوى نسيان تاريخه غير المشرف وتصديق إذا ما قيل لك بنيله مكرمة الشهادة وفي نضال مشرف؟.
فحياتنا اليومية تكاد واقفة على منوال واحد لا يتغير أو يتبدل، فتيان يتمنطقون أسلحتهم ويجوبون بسياراتهم المسروقة والمنهوبة ويهاجمون سيارة عرطة أو يسطون على مرتبات موظفين أو يقتنصون فرصة للانقضاض على مسلح عابر سبيل أو قاطرة تاجر سالكة أو ملكية عامة أو خاصة أو أو أو.. الخ من البطولات المخجلة المجترحة في مضمار النهب والسلب.
اختلط الكفاح بالسفاح، والمناضل بالبلطجي، وتحرير الجنوب باعتقال أهله في سجن كئيب ومظلم، فالجاهل الأُمي البلطجي يتصدر المشهد، والعاقل السياسي الفطين يخفت صوته ويغور فكره ونضاله متوارياً منسياً، فالجلبة مثلما قيل نتاج عربة فارغة، كما والصوت المدوي مصدره طبل أجوف فارغ، فضائناً فراغ أجوف غير قابل بمنطق عقلاني وحكيم، فحين يسود الجهل والجهلاء يصير الكلام عن العقل والعقلاء مجرد سذاجة وجنون.
ومع كل هذا العنفوان والغليان، ومع هذا الخوف الذي ينتابنا على حياتنا وأبنائنا وأقربائنا ومعارفنا وأهلنا ومجتمعنا وحتى رزقنا وقوتنا ومرتباتنا؛ ما زالت وأولادي وجيراني وأصدقائي؛ بل وكل أهل هذه البلاد نتطلع ونحلم بزوال وشيك لهذه الوضعية المخيفة المحبطة، ناهيك وجميعنا يمسي ويصبح على ذات المنوال المفزع المحبط المستبد، فحياتنا أسيرة محنة حقيقية وعيشنا فيها مأساة كبيرة منهكة للبدن، فاطرة للقلب، مهينة للكبرياء، موجعة للأدمية، وبرغم قسوة ومرارة وألم المعاناة اليومية؛ ها نحن نكتب، ونحكي، ونسأل، ونحزن، ونفرح وكأن شيء لم يكن.
محمد علي محسن
حياتنا مأساة كبيرة !! 1680