السؤال المطروح الذي وضعه "مورياك ميراك فايسباخ" مقدمة لكتابه "المهووسون في السُّلطة" تحليل نفسي لزعماء استهدفتهم ثورات 2011م هو التالي: هل هؤلاء الزعماء أشخاص أصيبوا باضطراب في الشخصية بسبب صدمات الطفولة أو غيرها من التأثيرات العائلية والاجتماعية؟ أم هم في الأساس أشخاص أصحاء تعرضوا للإفساد في سياق عملية توليهم المناصب القيادية؟
سؤال "بلا شك" سرعان ما تتكشف إجابته سهلة سافرة وأنت في خضم قراءتك لسيرة الرؤساء(القذافي ومبارك وبن علي وصالح) الذين تصدرت صورهم غلاف كتاب قيم ونادر في مضمونه ومحتواه الغائص لأعماق النفس البشرية الأنانية المتبخترة في تقديس ذاتها العظيمة ما وجدت لها مجتمعات خانعة, مضطهدة, جبلت الانحناء كيما يمتطها رؤساء أمثال هؤلاء العابثين الفاسدين, الناهبين, القتلة, المرضى بجملة عاهات خلقية ونفسية وبدنية وذهنية وعملية.
فضلاً عن بيئة خصبة لنمو مثل هذه الأمراض النفسية في أعماق وسلوك الرؤساء الأربعة أو سواهم ممن تملكتهم حالة سريرية من النرجسية وجنون العظمة والهستيريا ورهاب الذهن، فهذه جميعها تكاد سمة مشتركة بين الحكام العرب الذين تساوقت ردة أفعالهم حيال الثورات الشعبية بنسق واحد صادم وكارثي وإن تفاوتت نسبته ما بين بلد وآخر.
فالسمة الجمعية لهؤلاء أنهم تشاركوا في إذلال وقهر شعوبهم, رغبة في إشباع شبقهم المكبوت الغائر في نفوسهم المريضة, الجامحة لتعويض شعورها بالدونية وكذا حرمانها وقساوة طفولتها. فمثلما هو معلوم بأن جوهر النرجسية يتمثل في حب الذات الذي يستتبع عدداً من الصفات، فالنرجسي- وفق علم النفس- "يُفرط عادة في المبالغة في تقدير نفسه وقدراته أي ذاته العظيمة، ويطلب الإعجاب من الآخرين الذين يطمئنونه بعظمته".
هذا المرض الخطير كان من نتائجه المأساوية والكارثية أن أربعتهم عاشوا ذات الصدمة المفاجئة المتمثلة بثورات شعبية عارمة تطالبهم بالرحيل, كما كان ردة فعلهم حيال هذه الثورات تكاد واحدة من ناحية التعامل معها باستعلائية ودونية محتقرة للثائرين عليهم، وبرهاب هستيري استدعاهم للبحث عن ضحية داخلية أو خارجية ليلقوا على كاهلها فشلهم وفسادهم، وكي يبرروا أيضاً قتلهم وعنفهم المستخدمين تجاه المتظاهرين على حكمهم.
نعم.. جميعهم عاشوا حقبة طويلة وسط مظاهر السلطة الشخصية المطلقة المحاطة بهالة وتبجيل وافتتان بالذات ولدرجة جعلتهم يغفلون حتى أنهم عرضة للموت أسوة ببقية الخلق.. فالسلطة والنرجسية صنوان لا يفترقان أبداً، كما والنرجسية والكذب وجهان لمتحدث واحد؛ لكنها هذه النرجسية وحين تتملك حاكما يعاني من عضال بنيوي ذهني عاطفي شعوري مجتمعي تصير هنا نرجسية خبيثة ومدمرة.
هذه النرجسية الخبيثة ذروتها في حالة الزعيم القائد معمر القذافي, الذي وصل جنونه وهوسه لحد اقتناعه بكونه مجداً وتاريخاً وقيمة وتحرراً وثورة، ولأنه كذلك "فلا تفرط فيه ليبيا ولا الأمة العربية ولا أفريقيا ولا أمريكا اللاتينية ولا سائر الشعوب التي تريد الحرية والكرامة للإنسان وتقاوم الجبروت" حد وصفه، بل وأكثر من ذلك ففي مقابلة متلفزة أجرتها معه محطتا "البي بي سي" و" آي بي سي " في أحد فنادق طرابلس أجاب على سؤال صحافي قائلاً: أنا لست رئيسا، إنهم يحبونني، شعبي كله معي، جميعهم يحبونني، شعبي سيموت في سبيل حمايتي".
وإذا كان جنون القذافي قد أدى به إلى نهاية تراجيدية تعد محاكاة واقعية لجنون الكثير من القادة النرجسيين الذين دون التاريخ نهايتهم المأساوية؛ فإن جنون مبارك وبن علي وصالح وبشار والبشير وسواهم من الحكام العرب مازال طاغياً ومستفحلاً في وجوده وعدواه ما بقيت مسببات المرض كائنة فينا نحن كمجتمعات عربية سقيمة بعضال عبادة السلطان الفرد المستبد المجنون المتغطرس النرجسي الكذاب المرتاب الخداع وووالخ.
فالرئيس جورج دبليو بوش -الذي فضحت سنوات حكمه الثماني- علامات لا تمحى على اضطراب حاد في الشخصية.. كما وثقت ذلك بالتفصيل دراسة سريرية للدكتور جاستن فرانك، شخص مضطرب عاطفياً لم يُفترض قط السماح له بتبوؤ منصب الرئاسة.
استند أستاذ علم النفس في جامعة جورج واشنطن في عمله إلى تحليل متخصص للتصريحات العامة لبوش والتي نظر إليها باعتبارها نتاج صدمة تجربته الطفولية.. يعاني من اضطرابات عاطفية حادة في الشخصية.
فالمؤلف هنا لم يكتف بتحليل وتفسير تصرفات الرؤساء الأربعة المخلوعين، بل ضمنّه حالات نرجسية أوردها في سياق كتابه الجميل في تحليله وتشخيصه وكذا في عرضه لنتائج الحالات المرضية كل على حدة.
في المحصلة أنت إزاء حكام متشابهين متماثلين في ردة فعلهم حيال ثورات شعوبهم وفي عزلتهم التامة عن قضايا ومشكلات مجتمعاتهم، وفي بطشهم وجبروتهم ورفضهم التسليم بحقائق ماثلة ومشاهدة، وفي توجيه أصابع الاتهام لجهات خارجية وداخلية، وفي معاناتهم بداء الرهاب والارتياب من مواجهة فشلهم وإخفاقهم، ومن كونهم وكوننا ضحايا لنرجسية الزعيم المعجزة الأسطورة المريض الفاشل الفاسد المجنون الكذاب المذعور.
المهم ومثلما خلص تقرير أطباء بيوثولوجيين سوفيات قدّر لهم تشريح جثمان الزعيم جوزيف ستالين بعد وفاته وخرج بنتيجة مفادها بأن من حكم الاتحاد السوفيتي قرابة ثلث قرن لم يكن سوى شخص مريض.. خلصت كذلك بأن الأمر لا يختلف عما قرأته يوما من خفايا وأسرار الزعيم ستالين, الذي يعد ضمن مئة شخصية عالمية في القرن العشرين.. فحاكمنا الذين لا متسع لهم سوى في موسوعة النهب والفساد والإخفاق كانوا أناساً مرضى.
محمد علي محسن
مهووسون في السلطة!! 1783