لا ريب أننا قد اخفقنا- على مدى أكثر من نصف قرن- في بناء دولة مدنية حديثة ومتطورة تنعم بالأمن والاستقرار والسلام والطمأنينة وأن هذا الحلم ما فتئ يراود كل اليمنيين ويتطلعون إلى اليوم الذي يتمكنون فيه من تحقيقه وبلوغ مراميه ليعيشوا في ظل دولة تحترم فيها آدمية الإنسان وحقه في العيش الكريم.
ولا ريب أننا وبعد كل هذا الزمن الطويل مازلنا نتحرك ونسير بجسد أنهكته الندوب والأزمات والحروب والمخاضات الصعبة وتلاعبت به الأهواء والأيديولوجيات والعصبيات القبلية والحزبية والمناطقية ودورات العنف المتلاحقة, فقد تقاتل اليمنيون على مستوى كل شطر وتقاتلوا كشمال وجنوب وخاضوا حروباً عدة تارة باسم إعادة الوحدة وأخرى بهدف تفكيكها.
ولا ريب- أيضاً- أننا قد أهدرنا خمسة عقود في استجرار ملاحم العرب في عصور الجاهلية وأشهرها بالطبع ملحمة (داحس والغبراء) والتي اقتتلت فيها القبائل أربعين عاماً بسبب سباق بين فرسين وكذا ملحمة (البسوس) التي تحاربت فيها القبائل خمسين عاماً بسبب قتل ناقة لمرأة اسمها البسوس.. ولأننا متهمون بأننا شعب لا يحسن ترتيب الأولويات فقد ظلت هذه الأولويات تختل موازينها في أيدينا إلى درجة أنه وكلما أردنا تصويب البوصلة باتجاه تلك الأولويات أعاد الساسة ومراكز النفوذ المتصارعة توجيهها نحو معاركهم وأجندتهم, لذلك فقد استمر ثالوث الفقر والتخلف والأمية يطحن هذا الشعب على الرغم من الوعود تلو الوعود التي كنا نغمض أعينينا عليها لنصحو على الحقيقة المؤلمة أن الفقر يزداد استفحالاً وان أسراً باتت تقتات على فتات الأثرياء ونبش قماماتهم لتنمو أجساد أطفالها مصحوبة بالأمراض المختلفة بعد أن فشلت الرعاية الاجتماعية في سد رمق هذه الأسر المنكوبة..
وإلى جانب ذلك ها نحن نكتشف أننا الذين نقف على أرضية هشة تخلو من أية تنمية مستدامة أو بنية تحتية سليمة أو من تعليم حقيقي يصنع جيلاً مدرباً ومتماسكاً يعتز بانتمائه الوطني وهويته اليمنية وتاريخه التليد.
قد يكون مثل هذا الطرح قاسياً وجارحاً ومؤلماً, لكن ذلك واقع الحال ومن غير الواقعية والإنصاف تحميل طرف بعينه مسئولية هذا الكم الهائل من الإخفاقات بل إن كل الأطراف قد أسهمت بشكل أو بآخر في تشكيل الواقع الذى نشكو من أوجاعه اليوم كما أسهمت في إحراق المراحل وبعثرة أولوياتنا إلى درجة كنا نشعر معها أن الزمن لفظة مشطوبة من قواميس هذه الأطراف وقيمته مهدرة في حساباتها وقد يكون من المؤسف أن جميع القوى السياسية والحزبية والاجتماعية لم تستفد من دروس الماضي المرير بدليل أنها التي مازالت تعيد إنتاج الأزمات لنتفاجأ أننا وكل ما خرجنا من أزمة نقلتنا إلى أزمة أخرى فالزمن بالنسبة لها لا وزن له ولذلك فلا غرابة إن وجدنا مشاكلنا وصراعاتنا وتجاذباتنا تدوم سنيناً وتناقضاتنا تتحول إلى صراعات تفرخ حروباً ونزاعات يكون الخاسر الأكبر فيها هذا الوطن الذى كلما تنفس الصعداء اصطدم بجدران التعصب والجهالة وضيق الأفق.
لقد آلمني كثيراً أنه وبعد أيام قلائل من احتفالنا باختتام مؤتمر الحوار الوطني الذى شبهه البعض ببقعة ضوء ساطعة في ظلام العرب الدامس أن تعاود حملات التصريحات والمناكفات السياسية والحزبية والإعلامية في الاشتعال كحمم وبراكين بعد أن ظن الجميع أن الأطراف السياسية والحزبية والاجتماعية قد نجحت في التوافق على قواسم مشتركة لعقد اجتماعي يمكن اعتباره أنموذجا لمصالحة وطنية شاملة وان هذا العقد الذى أجمعت عليه تلك الأطياف وارتضت به كمشروع للمستقبل وإطارا نظرياً لبناء الدولة المدنية الحديثة والعصرية أصبح الوثيقة الضامنة لإنجاز مسار التحول الشامل وتعزيز التقارب والثقة بين خصوم الأمس وانه لا مجال بعد اليوم لشق المجتمع ودفعه إلى حالة من التفتت والخصام لكن فإن مؤشرات التصعيد التي استفاقت من جديد من خلال بعض التصريحات والمنابزات الإعلامية والسياسية قد ولد انطباعاً لدى كثير من المواطنين بان ما خرج به مؤتمر الحوار الوطني ليس اكثر من مسكنات وقتية وان عقاقير (الطلق الاصطناعي) تعد لازمة قادمة تلوح في الأفق إذا لم يتم المسارعة إلى احتوائها وإغلاق الباب نهائياً أمام من يسعى إلى خلخلة مداميك التوافق والعبث بجوهرية مخرجات الحوار الوطني.
وليس خاطئاً إذا ما قلت إنه ودون تدخل الرئيس/ عبدربه منصور هادي بوصفه المؤتمن على حماية مخرجات الحوار والتوافق الوطني في إيقاف موجة التشاحن الانفعالي التي بدأت بـ (شيطنة) المشهد بسلسة مثيرة من التصريحات وردود الأفعال التي من شانها أن تؤدي إلى حالة من التوتر الاجتماعي والسياسي فان هذا السجال كفيل بإعادة الأوضاع بأشد مما كانت عليه قبل مؤتمر الحوار الذى اندثر معه الحديث الثر والمستطاب وحل محله منطق التصعيد الذى وجد من يستغله على نحو مثير ومخيف ومقلق خصوصاً في ظل الاستقطاب البغيض والاحتشاد الحزبي الذى تتصاعد وتيرته كبالون منفوخ في الهواء وبالتالي فحينما ندعو الرئيس هادي إلى التدخل لإيقاف مثل هذا التصعيد ولجمه قبل أن يصل إلى الانفجار فلاننا ندرك تماماً انه بحكمته التي أدار بها معركة أراد لها البعض أن تخضع لحسابات من يرغبون بالإبقاء على اليمن مشتعلاً بفتيل أزمة تلاحقها أزمة هو من بوسعه تفويت الفرصة على كل المحاولات الرامية إلى الانتقال بالبلاد من مسار التهدئة إلى مربع الفوضى سواء كان ذلك عبر إعادة التنقيب في الدفاتر القديمة أو من خلال إثارة نوازع الفتنة والتناحر والخصومة بين فرقاء العمل السياسي و الحزبي في لحظة نحن فيها أحوج ما يكون إلى إغلاق ملف الماضي والاقتناع بان هذا الماضي لن يعود وتركيز الاهتمام على المستقبل بوصفه الرهان الذى يقف أمامنا.
مرة أخرى نذكر بان موقف (اضعف الإيمان) الذى ورد في الحديث الشريف لا ينطبق على من هم في المسئولية الأمامية وفي المقدمة منهم القيادات في السلطة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني فهم القدوة ولكي يكونوا على هذا الوصف ينبغي أن يكونوا في مستوى ثقة الناس بهم وفي مقدمة صفوفهم وليس بعدهم فالحالة التي نحن فيها لا تقبل في كل الأحوال موقف ( اضعف الإيمان) لأن مصير هذا البلد أمانة في أعناقهم و ما يعول عليهم هو تكريس وتعميق مبدأ المصالحة الوطنية والدفع في إنجاحه وتبني مفرداته لنصطف جميعاً على حب اليمن.
علي ناجي الرعوي
التصعيد يعود إلى الواجهة!! 2105