عندما لا يعثر المرء على دولة حامية لمواطنته وكافلة لحياة كريمة عادلة, فإنه في هذه الحالة غير ملام إذا ما احتمى بقبيلته وطائفته أو منطقته وجغرافيته، فمتى غاب سلطان الدولة ومتى تلاشى وضعف حضورها وهيبتها وحتى قدرتها على فرض نظامها وقوانينها؛ فكل هذه المسميات تصير عبئاً ثقيلاً كفيلاً باستدعاء أدوات ما قبل التحضر والمأسسة والدولة؟.
ما يحدث اليوم لم يكن أمراً مفاجئاً، إنه نتاج طبيعي لعقر الدولة ومؤسساتها، ألم يقل الدكتور/ عبد الكريم قولته الشهيرة " ذبحت الدولة يوم ذبحت الثيران"؟.. وقتئذ مثل تهجير نائب رئيس الحكومة د/ يحيى مكي, بثيران تم عقرها أمام داره بمثابة نكتة تداولها عوام اليمنيين؛ لكن وبعيد التهام القبيلة لموروث الدولة في الجنوب, فكثير من الجنوبيين لم يعد ينتابهم الفزع أو يهزؤون من عقر ما بقي لديهم من هيبة وثقافة مكتسبة مبجلة للدولة ومؤسساتها، فجل هذه المكاسب تم خسرانها أو أنها في طريقها للقضاء التام والمبرح.
ما قيمة الكلام عن الثورة والحوار والفدرلة لرجل مثل جاري المعاق حركياً "علي أحمد" الملقب بـ"العقيم" الذي يزحف زحفاً إلى بوابة معسكر الجيش, كيما يطمئن على نجله الصغير زكريا الذي مازال رهينة لجرم لم يقترفه هو أو أهله؟ في كثير من الأحيان تكون الكتابة أشبه بسخافة فجة ووقحة؛ فماذا يعني شغل الناس بأفكار ثورية مناطحة السماء فيما الواقع الذي نعيشه اقرب للفناء في الثرى؟.
القوى المشيخية والمذهبية والقبلية التي كانت سبباً في تخلف وإذلال وقهر المواطن في الشمال ومن ثم إضاعة ثورته وجمهوريته في الماضي هي ذاتها القوى الوائدة للدولة الواحدة ولاتفاقياتها ودستورها وإصلاحاتها.
كما وهي نفسها المحاربة الآن لمؤتمر الحوار ولمرحلة الانتقال وللدولة الاتحادية, فضلاً أنها خلف هذه الحروب الحاصلة في شمال الشمال وفي العاصمة ونهم ومأرب والبيضاء وتعز وصعدة وحتى أبين وشبوة وحضرموت وعدن والضالع ولحج وسواها من بؤر الصراع المحتدم تحت يافطات عدة, لكنها في النهاية مجرد أساليب وطرق تؤدي لغاية واحدة هي مصلحة القوى التقليدية.
القوى المناطقية والعسكرية التي أضاعت استقلال الجنوب ودولته ونظامه ومؤسساته ومنجزاته المتواضعة, هي نفسها القوى المحاربة اليوم لاستعادة هذه الدولة ولو استلزمها الأمر إدخال الجنوب وأهله في أتون فوضى لا تبقي أو تذر شيئاً إلا وقضت عليه.
يُختطف جندي أو ضابط من قبل جماعة مسلحة, فيكون الرد باعتقال أناس أبرياء عُزل كرهائن!، تُطلق عصابة نيرانها على قافلة عسكرية سالكة أو موقع أو نقطة, فيكون العقاب جماعياً للسكان الآمنين في بيوتهم ولمرتادي السوق ولعابري سبيل وللمستشفيات ودور العبادة؟!.
أي قائد عسكري هذا الذي يوجه ترسانة قوته لقتل الأبرياء والعُزل ولتهجير وترهيب الأطفال والنساء بدلاً من استخدام آلته العسكرية في القبض على الخارجين على النظام وفي حماية السكينة والمنشآت العامة من التخريب والنهب والتقطع؟ أي جندي أبله يمكنه فعل كل هذه الأفعال المخجلة المشينة باسم الواجب ومن ثم يستغرب كيف أنه مكروه ومنبوذ من محيطه المجتمعي؟.
لسنوات مضت ونحن من يطلب من الجيش والأمن حماية المواطن من القتل والعبث والتخريب والتقطعات وسواها من المظاهر الغريبة الدخيلة على ثقافتنا وحياتنا اليومية.. في إحدى المرات طلب مدير مؤسسة الكهرباء من قائد اللواء السابق بمساعدة عماله وحمايتهم كيما يعيدوا خطوط الضغط العالي التي أسقطتها رصاصات جنوده المرابطين في الحبيلين أثناء ردهم على جماعة حراكية مسلحة، كان رد القائد الهمام: المواطن الذي يشكو من انقطاع التيار هو من يجب عليه أن يحمل السلاح حماية لفرقك الفنية وحفظاً لأبراج الكهرباء من التخريب والعبث.
نعم.. لطالما حذرنا ونبهنا من تمادي جماعات القتل والسلب والخطف والتخريب فيما حماة النظام والوطن كأن الأمر لا يعنيهم ما بقوا في ثكناتهم..
العميد ضبعان مثله مثل سالفه العميد حيدر أو مقولة أو حتى العقيد سعيد الريمي وسواه ممن ثبت فشلهم في رسم صورة إيجابية ومشرفة للدولة ومؤسساتها النظامية والسيادية؛ فكيف إذا ما قلنا بمسؤوليتهم الأخلاقية حيال وحدة مجتمعية منتهكة وممزقة ويستلزمها الكثير من الجهد والكثير من الفهم والمعرفة والكفاءة لما يشكو منه الناس وما ينفرهم ويستفزهم؟؟
القوى المتناحرة الآن- وفي أكثر من جبهة- إنما تفعل ما تفعل لسلطة أو نفوذ أو مكسب ماضوي لا ينبغي هدره أو التفريط به مهما كانت النتيجة مأساوية وكارثية.. ما أخشاه هو أن هذه المعركة المستعرة اليوم بأكثر من لافتة وغاية سيطول أمدها، فكلما طال زمنها كان على حساب المعركة الحقيقية التي يجب أن تخاض لأجل الدولة الاتحادية الحديثة، وعلى حساب القوى الحداثية المعول عليها إخراج البلد وأهله من حالة التمزق والتخلف والتناحر إلى فضاء رحب وناهض ومزدهر اقتصادياً وسياسياً وحياتياً وإنسانياً.
وعلى غرار " طالبان جُند الله في المعركة الخطأ" وفقاً وقولة أطلقها الكاتب "فهمي هويدي" تجاه حرب ضروس ما فتأت أفغانستان غارقة في أتونها إلى يومنا؛ أجدني الآن محذراً ومنبها من استمرأ المعركة الدائرة فصولها في أكثر من بقعة وجهة، إنها معركة مستنزفة للجهد والوقت والبشر، فكل هذا العنف والتخريب والإرهاب والعبث والدم النازف بغزارة ليس إلا مقدمة يسيرة لديمومة وحفظ القوى التقليدية المعيقة للدولة ردحاً طويلاً.
نصيحتي لليمنيين شمالا وجنوبا ألَّا يكونوا وقودا لمعركة ليست بمعركتهم المشرفة، فمعركتنا الحقيقية التي يجب اجتراحها, غايتها الدولة العصرية وجوهرها, الوحدة الوطنية والعدالة والمواطنة المتساوية وغيرها من المفاهيم الحضارية والديمقراطية والإنسانية التي غفلتها القبائل المتناحرة اليوم.
محمد علي محسن
القبائل المتناحرة !! 1659