قطعاً لست من دعاة نظرية المؤامرة أو المدافعين عمن يختبئون خلفها أو الذين يربطون بين عملية انتقال اليمن من الدولة البسيطة الموحدة إلى النظام الاتحادي الذى جرى إقراره مؤخراً من معظم المكونات والنخب السياسية والحزبية والوطنية التي شاركت في مؤتمر الحوار وبين مؤامرة خارجية حاكتها جهات لم ترق لها وحدة اليمن, فعملت على استخدام بعض القوى الداخلية من أجل تمرير هذه المؤامرة الهادفة إلى تقسيم اليمن إلى عدة أقاليم والضغط على اليمنيين للقبول بمثل هذا التقسيم على غرار ما حدث في العراق بعد احتلاله وسقوط نظام البعث وانتقال السلطة إلى نظام جديد تم إقناعه من قبل بعض الخبراء الأجانب بمسألة الدولة الاتحادية التي تضمنها دستور 2005م.
ولست أيضاً من أصحاب النظرية الثورية الذين يعزون الإشكاليات والإخفاقات التي تعرضت لها الدولة اليمنية- منذ نشأتها في عقد الستينيات من القرن الماضي والأزمات التي رافقت مسيرة دولة الوحدة منذ التئام شطري اليمن في كيان واحد عام 1990م- إلى المركزية الشديدة وهيمنة المركز على الفروع لقناعتي شخصياً أن المركزية التي جربها اليمنيون كانت مركزية شكلية في دولة مترهلة وضعيفة افتقدت لأبسط مقومات الدولة المركزية القوية القادرة على بسط نفوذها على كامل التراب الوطني وفرض هيبتها على جميع الأجزاء في ظل وجود من ينازع هذه السلطة صلاحياتها من مراكز النفوذ القبلي والاجتماعي التي كانت تظهر كشريك للسلطة في النفوذ والحضور والمكاسب.
ولأني لا أميل إلى أي من التوجهين, فإني انظر إلى تحول اليمن من الدولة البسيطة إلى النظام الاتحادي كخيار فرضته الكثير من تحديات الواقع وان هذا الخيار الذى تلقفه اليمنيون بكامل إرادتهم بما فيهم أولئك الذين كانوا بالأمس على رأس الرافضين لفكرة النظام الاتحادي عندما طرح في وثيقة العهد والاتفاق التي وقعتها أطراف الأزمة السياسية قبل حرب صيف 1994م والذين تغيرت مواقفهم شأنهم شأن الكثير من اليمنيين الذين وجدوا أنفسهم أمام خيارين لم يكن لهما ثالث؛ إما الحرب الأهلية التي كانت على الأبواب وإما القبول بموضوع الأقلمة التي اتفقت عليها القوى الوطنية هرباً من خطر التشتت والتشرذم والانهيار.
وبصرف النظر عمن ينظرون إلى النظام الاتحادي بنظرة متفائلة ويرون أن تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم سينتج نسيجاً مجتمعياً يؤطره وطن اخضر وقلوباً متصافية تجمعها وحدة التكامل التنموي والاقتصادي ووشائج الأخوة وروح المودة ومن يصف الانتقال من الوحدة إلى الاتحاد بأنه بمثابة قنبلة موقوتة إذا ما انفجرت ستؤدي إلى انفصام عرى الترابط والتعايش السلمي والمصيري بين أبناء هذا الشعب, فان الواقعية تقتضي الإقرار أولاً بان الطريق إلى النظام الاتحادي لن يكون سهلاً أو مفروشاً بالورود بل لا بد وأن الكثير من المصاعب ستعترض طريقه مما يقتضي معه من كافة اليمنيين التحلي بحالة من الوعي حتى يتسنى تجاوز هذه الصعاب بأقل التكاليف حيث ونحن في أشد الحاجة إلى مفهوم جديد تصبح المسئولية بمقتضاه تطوعاً لخدمة الصالح العام والنهوض بالوطن وليس لخدمة مصلحة حزبية أو شخصية أو منفعة ذاتية حتى لا يتحول الانتقال إلى نظام الأقاليم هدفاً بحد ذاته أو إلى أداة للاختلاف ووسيلة إلى مزيد من الفرقة والتناحر بين اليمنيين وسبباً لخلق ديكتاتوريات جديدة على مستوى كل إقليم.
ومن الأهمية بعد كل ذلك أن يتم تحصين النظام الاتحادي بمواد دستورية ثابتة وراسخة غير قابلة للتعديل أو الإلغاء وبما يحافظ على وحدة المكون الاجتماعي والوطني للمجتمع ويحميه من كل المواقف الانفعالية أو الارتجالية والمحاولات الرامية إلى خلخلة أركان النسيج الاجتماعي تحت تأثير الرغبة بالتفرد أو الهروب من التزامات الهوية الجامعة.. فما نخشاه أن نقع في الأخطاء التي رافقت بعض التجارب المماثلة والتي انزلقت ببلدانها إلى صراعات مميتة وقاتلة خصوصاً ونحن من نعلم أن النظام الاتحادي تتجاذبه رغبتان متعارضتان؛ الأولى يعبر عنها نظام المركز والأخرى نظام الأقاليم ومواقف المجالس المحلية المنتخبة وهو ما قد نتفاجأ به عند البحث في توزيع عائدات الموارد السيادية التي يشكل النفط والغاز العمود الفقري لها.
إن الدعوة إلى تخصيص نسبة معينة من عائدات النفط للولايات المنتجة كما أكدت على ذلك وثيقة إقرار توزيع الأقاليم وان بدت منسجمة مع النظام الاتحادي المزمع إقامته في اليمن مع ذلك, فإن الخوف أن تفهم هذه الإشارة بأنها تصريح للولايات المنتجة للنفط والغاز بالاستئثار بالنصيب الأكبر من عائدات الثروة الوطنية الموجودة في أراضيها, حيث أن أي تميز بين ولاية وأخرى في الإنفاق المالي والتخصيصات الاستثمارية ستكون له عواقب وخيمة على السلم الاجتماعي فلا احد سيقبل بان تكون هناك أقاليم غنية وأخرى فقيرة ومواطنون يتميزون بدخل مرتفع وإخوان لهم يعانون من شظف العيش, لذلك لابد وأن يتضمن الدستور الجديد ضوابط حقيقية تسهم في إيجاد حالة من التوازن والعدالة في توزيع عائدات الثروة وبالذات و أن هذه الثروة تتركز في إقليمين هما من أقل الأقاليم سكاناً, فيما تتكدس الكثافة السكانية في الأقاليم الأقل مساحة وموارداً.
ولكي نستفيد من أخطاء الآخرين فعلينا النظر إلى التجربة الاتحادية في نيجيريا التي تعد بلداً نفطياً وتمتلك احتياطياً وفيراً من هذه الثروة فما حدث في نيجيريا هو أن الأقاليم المنتجة للنفط تظلمت مؤخراً من سياسة تقسيم العائدات بحجة بان تلك الأقاليم تتكبد مشقة وعناء التلوث البيئي وإنها بسبب ذلك تستحق النصيب الأكبر من دخل تلك الثروة ومع الوقت فقد تحولت تلك المطالب- التي لم ترضخ لها بقية الأقاليم- إلى أعمال عنف ومواجهات حادة بين أبناء الأقاليم المنتجة والأقاليم غير المنتجة ولا شك أن ما تقوم به بعض القبائل في حضرموت هذه الأيام من محاصرة للشركات النفطية وحقول الإنتاج يعكس تماماً المشاكل المحتملة التي قد يتسبب بها توزيع الموارد وان هناك من سيتجه إلى صب الزيت على النار والتي اذا ما اشتعلت فإنها ستحرق الجميع.
إذاً فالانتقال إلى الدولة الاتحادية لا يتوقف عند حدود الإعلان عن عدد الأقاليم و المحافظات التي ستضمها ولا عند إيجاد دستور يتضمن توزيع الصلاحيات بين المركز والأقاليم بل أن الأمر اكبر من ذلك بكثير؛ إذ من المهم أن تتغير العقول قبل أن تتغير هياكل الدولة, فنحن جميعاً مطالبون أن نتعلم اليوم دروسنا الأولى عن النظام الاتحادي حتى لا تأتي خطواتنا الأولى متعثرة تجهض الدولة الاتحادية في مهدها وبالتالي فإذا ما أردنا لهذه التجربة النجاح والديمومة والاستمرارية, فإن علينا منذ اليوم أن نترفع عن الحسابات الآنية والمصلحية والفئوية وأن نرفق ببعضنا البعض وأن نضع مصلحة اليمن فوق الاعتبار, لأن ذلك هو السبيل الوحيد للنجاة بمركبنا الذي إذا ما غرق, فإننا جميعاً سنغرق معه.
علي ناجي الرعوي
الدولة الاتحادية..(black and white) 1862