أن يُنتقد رئيس الحكومة أو الدولة أو الوزارة في قناة خاصة أو صحيفة أهلية أو معارضة؛ فذاك أمر اعتيادي ومألوف.. أما وحين تسمع شاباً متحمساً أو مثقفاً أو سياسياً ويوجه انتقاده لرأس الدولة ومن خلال قناة اليمن الرسمية الحكومية التي اعتدناها زمناً طويلاً وهي مغردة بحمد الزعيم و بمعجزاته ومآثره, فهذه فاتحة إيجابية وحسنة تستحق منا الإشادة والإطراء.
فقناة اليمن في مسارها الصحيح المحقق لشعارها " قناة كل اليمنيين " هذا إن لم نقل أنها وبرامجها الرتيبة الجامدة المضللة المحرضة وكذا مذيعيها المختطفين المحنطين زمنا في تابوت العهد القديم قد عادت لنا جميعا كشعب أولاً باعتباره مالك القناة المنفق عليها من قوته وصحته وتعليمه وتنميته ، وتالياً كوظيفة وسلطة ورسالة مبتغاها ترفيه وتوعية المجتمع اليمني لا التنكيل به والتنغيص من حياته مثلما كان حالها طوال حقبة مضت.
شخصياً كنت قد أعلنت مقاطعتي للقناة الفضائية اليمنية التي أطلق عليها الصحافي الرائع الراحل عادل الأعسم قناة " قفي " نعم اعتبرت مشاهدتها إبان حكم الرئيس المخلوع بمثابة الإهانة والاحتقار لذاتي المتبخترة ببقايا احترام وكبرياء واعتزاز فضلاً عن الشعور بالألم والوجع على أهلي ووطني المنتهكة حياتهما وأحلامهما ووحدتهما وديمقراطيتهما وجمهوريتهما وثروتهما وجيشهما وووو إلخ.
هذا الانتهاك- أو قولوا " الاحتقار "- مصدره إعلام الدولة الذي مارس ابشع عملية تضليل وزيف وتحريض على الوطن والمواطن ومن مال الخزينة العامة وهنا مكمن المأساة؛ فلو أنها فعلت ما فعلت من حساب الحاكم الفرد أو الحزب لهان الأمر ولتعاملنا معها أسوة بقناة " اليمن اليوم " أو "أزال " أو " سهيل " أو غيرها من القنوات أو الصحافة الخاصة. صحيح أن هذه القنوات ليست خاصة وفيها قدر كبير من عرقنا ودمنا ؛ لكنها على الأقل لا تؤرقني أو تعبث في ذهني ووعيي ووجداني وتاريخي وحياتي مثلما هو فعل تليفزيون الدولة.
أقول مثل هذا الكلام لأنني ادرك واعي حجم التخلف المثقل لكاهل إعلام الدولة. تركة لا تتعلق فقط بسقم المنهجية والوظيفة والوسيلة وإنما تعدت المسألة إلى بيروقراطية مؤسسية قاتلة لروح الابتكار والجرأة والتنافسية والمهنية والشفافية وغيرها من المفاهيم الحداثية العصرية المتسارعة والمؤثرة كثيرا في وسائل الإعلام وفي نمط أدائها وتقنيتها ورسالتها وتحديداً في ظل عولمة الفضاء والمعلومة والصورة العابرة المخترقة لكل المفاهيم والحدود والموانع السيادية والوطنية واللغوية والثقافية.
وللتدليل أكثر فمؤسساتنا الإعلامية للأسف مازالت عبئاً منهكاً وعاجزاً عن مجاراة المجتمع اليمني المتخلف تنموياً وتعليمياً ومعيشياً وسياسياً وثقافياً؛ فكيف إذا ما كان حال هذا المجتمع يماثل مجتمعات الخليج أو الإقليمي ؟ بكل تأكيد لن يقبل بهكذا إعلام موجه ومتخشب عند أخباره المملة الذي باتت اهتماماته ومشكلاته أكبر من يستوعبها إعلامه الحكومي المتخشب عند أخباره وتقاريره ونشراته السؤومة المملة بخطابها وصورها وأسلوبها ووقتها.
فهذه جميعها ربما احتملها الآن نظراً لانصرافه إلى ما هو ضروري ويتعلق بلقمته وكينونته ؛ لكنه وإذا تحسنت معيشته وارتقت اهتماماته فإنه لن يقبل بإعلام حكومي سقيم وعاجز عن مجاراة وسائل إعلام أهلية محلية ناشئة لا تمتلك واحد بالمائة من إمكانيات مؤسسات إعلام الدولة.
نعم فمع أن الإعلام الخاص في بلادنا لم ينتقل بعد إلى مصاف الاستثمار والشراكة الوطنية ؛ إذ مازال قائماً على حساب إعلام الدولة صحافة وصحافيين ومؤسسة وتقنية ، ومع كونه إعلاماً طفولياً جنينياً معتمداً في الأساس على إعلام الدولة وحبلها السري الممد له بالحياة ؛ إلا أن هامش الحرية المتوافر لديه جعل الإعلام الرسمي يبدو في مضمار السباق المحموم أشبه بسيارة عتيقة من نوعية " فوكس ووجن " وهي متخلفة عقودا عن سيارات عصرية تسابق الهواء ومن ماركات متعددة كورية ويابانية وألمانية وفرنسية وأمريكية وصينية ووو إلخ.
جميل وخليل ومحمد وسواهما ممن لم تتح لي فرصة مشاهدة برامجهم أعدهم استهلالة طيبة لعودة الإعلام العام إلى الشعب ، فما يقدمونه من قضايا وأراء وهموم حياتية وإنسانية, لهي محاولة متأخرة يراد بها إعادة الاعتبار لوسيلة طالما عبث بها العابثون وشوه صورتها المتملقون والمنافقون والانتهازيون.
أن تأتي متأخرا فذاك أفضل من أن لا تأتي أبداً ، قوله أجدها ماثلة بسعي شبابها المتألق المثابر المكافح الآن كي يمحو ما رسب واستقر في ذهن الناس من صورة سلبية عن تليفزيون بلادهم المحلق في مواكب القائد الرمز البار المعجزة الأسطورة ، المستنزف وقته وجهده في بث خطبه اليومية وفي قهر وإذلال واحتقار شعب برمته والذي مورس ضده صنوف التجاهل والتضليل والإقصاء والإهمال والانتهاك المادي والمعنوي والنفسي.
" بشفافية " و" كلام الناس" و" شؤون البلد " وغيرها من البرامج الجديدة الكاسرة لنمطية الرتابة والوقاحة والانتهازية وهي مفردات للأسف عُرف بها الإعلام الرسمي كافة والتليفزيون في رأس قائمة هذه الآلة الإعلامية الموجهة حقبة وبأسلوب شمولي امني نفعي فئوي ديماغوجي عبثي انتهازي غير عابئ بسوى بقاء وديمومة الحاكم.
بداية بلا شك لن تتوقف أو تتعثر عند برنامج بعينه ، أياً تكن تلكم المخاوف والذرائع التي ستواجه هكذا محاولة لتغيير الصورة ؛ فإن المحك الحقيقي كامن بمدى قدرة الشباب على كسر كثير من المثبطات والتقاليد القديمة الراسخة في ذهن وتفكير عديد من الساسة والمسؤولين عن المؤسسات الإعلامية.
كما وتكمن في استمرار هذا الاختراق الإيجابي المؤصل لإعلام جامع متنوع غير محتكر وغير مقصي ، وفي وجود مؤسسات إعلامية حكومية ضامنة متحررة هي الأخرى من كافة أشكال التبعية والانحياز، فوجود صحافة متحررة نسبيا من سيطرة التنظيم أو الفرد الحاكم يمكنها أن تشكل قوة دفع قوية وحيوية لنهج قناة اليمن باعتبارها نافذة وطن ومواطن على العالم فضلاً عن تجسيدها لشعارها القائل بكونها قناة لكل اليمنيين.
محمد علي محسن
قناة اليمن وفاتحة عهد جديد..!! 1771