اليُتم الحقيقي هو فقدك لوطنك فيما أنت تتلمس طريقك إليه، فحين لا تعثر على وطنك بين الأوطان، وحين لا يشعرك بنو قومك بفعل وطني يرتقي بك من حضيض الفاقد لكرامته وكبريائه ووجوده إلى مصاف الاعتزاز بوطنك والإحساس بفرحه وزهوه وإنجازه ؛ فاعلم أن هذا هو اليُتم القاسي والمؤلم .
إنَّه أشدَّ وطأة من الاغتراب كظاهرة تعتلج معظم الكائنات المهاجرة لموطنها، فالحنين الذي يختلج الواحد منا حين يفارق بلده وأهله محكوم بلحظة وصاله وزوال شوقه.
أما فقدك لوطنك فأكبر بكثير من فقدك لقريب أو عزيز، فالأوطان تماثل الأمهات الحنونات اللائي يستحيل تعويضهنَّ أو استبدالهنَّ بأخريات.
فمن وجهة نظري الموت ليس هو المحزن والمؤلم، فما من شك أن حياتنا عابرة منتهاها الفناء. إنما المحزن هو أن تموت وأنت حيّ تُرزق كما وتنفى وأنت في وطنك وبين أرجائه غريباً عاطلاً تائهاً عاجزاً عن فعل شيء ذي قيمة ودلالة.
للإمام علي -كرم الله وجهه- قولة شهيرة: الغِنَى في الغُربةِ وطنُ, والفقرُ في الوطن غُربة " لكنني أحدثكم عن اغتراب شعوري وذهني أسوأ من منتهى فسيولوجي بيولوجي، فالإنسان الغريب هو ذاك الذي يعيش ويموت كزائدة دودية لا تُدرك سوى في لحظات الألم والخلاص منها . نحن كذلك حين نكون أشبه بغُدَّة يستوجب نزعها كداء مؤرق وموجع لا كعضو تالف لم يحتمل زعاف الجسد.
الموجع جداً هو أن تستفيق يومك وسنونك حبيساً منفياً قتيلاً غريباً فيما قلبك ينبض حياة إنسان أرهقته أعباء الانتماء لعولمة متحضرة لا تشيء له بغير قترة قوم القرون الغابرة، وفيما كيانك وعقلك يخفقان رجاء المنتظر للحظة أمل تتسرب إليه من ثنايا دياجير موحشة قاتمة دهماء حائلة دون رؤية أو تمييز الأشياء مثلما هي لا كما تود وتريد أن تكون.
للشاعر الراحل نزار قباني قولة تتملكني منذ قرابة ثلاثة عقود على إدراكها وفهمها، قولة مفادها: أنه ليس بالضرورة أن يكون الإنسان خارج وطنه كي يكون منفياً؛ فهناك أناس كُثر منفيون وهم في أوطانهم وهذا هو المنفى الأشد قساوة وإيلاماً".
ما أقسى على الإنسان فُقد عزيز، لكنه وحين يصير الوطن هو المفقود والمواطن هو الثاكل والمُثكل ففي هذه الحالة المصيبة عظيمة لا ينفع معها النسيان أو الحزن.
نعم كم هي لحظات الفراق كدرة وموجعة لوتين فؤاد مرهف محب! فسوى كان رحيلاً أبدياً أو اغتراباً وقتياً يبقى الاغتراب الداخلي فقدان لوطن وهذا أشد قسوة وإيلاماً وحزناً ورزية.
أيها اليمانيون: إنَّكم أغراب لطما في وطنكم وفي حياتكم وفي أصقاع اغترابكم؛ فهلا أدركتم الآن فداحة مصابكم الجلل؟ لتكفوا عن استلهام سيرة آبائكم وأجدادكم المغضوب عليهم بتضرعهم لله لأن يباعد بين أسفارهم فستجاب لهم ربهم الذي مزَّقهم شر ممزق كما وأحال نعمتهم وجنانهم إلى نقمة ويباب إلا من بقايا خمط وسدر!
الأوطان ليست بقعة تراب نقيم فيها وننتسب إليها وإنما الأوطان كتلة مشاعر وأحاسيس فائضة رغبة ورضاء واعتزاز صاحبها بانتمائه إلى وطنه، فما لم يكن وطن الإنسان جميلاً نظيفاً مشرفاً قوياً عزيزاً مستقراً ناهضاً فسيحاً غالياً وقبل ذا وذاك كائناً مستوطناً في نفوس وعقول ووجوه وشفاه وسلوك المواطن ذاته؛ فإن هذا هو الاغتراب واليُتم الحقيقي .
محمد علي محسن
ماأقسى فُقدك لوطنك!! 1612