ما لم يتوقعه اليمنيون أن العالم الذي انقسم انقساماً حاداً في سوريا حتى قبل أن تقرر موسكو إيقاف موجة الإطاحة بالأنظمة عند أبواب دمشق وانشطر إلى معسكرين في ليبيا قبل أن يتدخل الناتو عسكريا واختلف في تونس كما في مصر التي كان العامل الحاسم للصراع فيها يتمحور عند القبول بحكم الإخوان وعودة حكم العسكر- أن يتفق هذا العالم في اليمن وان تلتقي إرادة متنفذيه على قاعدة الاتفاق على دعم وإسناد التسوية السياسية في هذا البلد وفقاً للمبادرة الخليجية واستحقاقاتها ومثل هذا التوافق الدولي هو ما اعتبره البعض (قصة نجاح)غير مسبوقة في العلاقات الدولية مع أن الحقيقة أن ذلك التوافق كان نتيجة طبيعية وتحصيل حاصل للفراغ الاستراتيجي الكبير الذي تولّد عن صراع الفرقاء وانقسامهم إلى محاور تتقاتل فيما بينها ولجوء كل طرف منها إلى بندقيته لحسم الصراع الذي تفجّر عقب اشتعال الربيع العربي وهو ما فتح الباب على مصراعيه لتدخُّل الخارج واحتواء الموقف وإخماد حرائق ذلك الصراع الذي كان صراعاً على اليمن وليس صراعاً من أجلها.
لابد أن الجميع لازال يتذكر انه وعقب توقيع الأطراف الرئيسية على المبادرة الخليجية بالعاصمة السعودية الرياض في 2011م مباركة أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون تلك الخطوة التي وصفها بالشُّجاعة معتبراً أن اليمن يستحق الأفضل وأن المجتمع الدولي سيعمل ما بوسعه من أجل دعمه ومساندته على تحقيق نهضته كما أنه الذي لم يسمح بأي تراجع أو انتكاسة أو فشل يعترض طريق نجاح العملية الانتقالية وهو ما أعطى رسالة واضحة للفُرقاء والشركاء وصنعاء والإقليم أن الأمم المتحدة قد أعطت لنفسها الحق في أن تكون اللاعب الرئيسي في الرقابة والإشراف على الحل في اليمن وهو ما استشعرته بعض القوى اليمنية التي سارعت إلى الإعلان عن جمعة (رفض الوصاية) قبل أن تندفع قوى أخرى إلى وضع العصا في دواليب الخارج وإقناع السلطة الجديدة بأن خروج اليمن من نفق الأزمة مرهون بمدى فاعلية الدور الأممي وليس الإقليمي ليشكل ذلك إيذاناً بوضع اليمن تحت رقابة مجلس الأمن الدولي وإخضاعه عملياً لبنود ميثاق الأمم المتحدة في سياق تراتبي متدرج وصل مداه بصدور القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي الذى يضع اليمن تحت طائلة البند السابع .
ومن المفارقات العجيبة أنه وفيما كان ناشطون وإعلاميون وسياسيون يمنيون يهللون فرحاً للاجتماعات الدورية التي يعقدها مجلس الأمن لمتابعة الشأن اليمني كان أشقاء لهم في مصر وتونس يقاومون أي دور يمنح للأمم المتحدة أو غيرها أكان ذلك عن طريق المشاركة في تحديد موجهات الحل أو من خلال الإسهام بالخبرة في مجال إعادة بناء الدولة إلى درجة أن القاهرة قد رفضت استقبال بعض خبراء الأمم المتحدة وأغلبهم تابع مباشرة أو مفوّض من قبل الأمين العام رافضة أي تدخُّل أو مشورة تأتي من قبل المنظمة الدولية باعتبار أن مصر المستقبل ينبغي أن تكون في الشكل أو المضمون كما يريدها أبناؤها لا كما تريد أن يراها بان كي مون أو أي من قادة الدول الكبرى .
أعلم أن مثل هذا الكلام قد لا يعجب البعض وأن هناك من سيفسره حسب رؤيته وأهوائه ولكن الأمانة وموجبات المواطنة تقتضي التنبيه إلى مخاطر تفشي ظاهرة الأصوات العلنية الرسمية منها وغير الرسمية والتي صارت تستغيث بالخارج لإقحامه في كل صغيرة وكبيرة في الواقع اليمني وكأن اليمن صارت بحاجة إلى استيراد دولة مع قواها الخاصة تقوم بمهام الدولة الوطنية في حفظ الأمن وردع الخارجين عن النظام والقانون الذين يعتدون على خطوط الكهرباء ويقومون بتفجير أنابيب النفط والغاز وقطع الطريق, خصوصاً وأن هناك من أصبح يطالب باستدعاء العون الخارجي؛ لإيقاف تمدد الحوثيين على غرار التعاون القائم في مواجهة عناصر تنظيم القاعدة بعد أن توسّعت الحركة الحوثية في عملياتها القتالية؛ ممّا قد يؤدي لتأزيم الوضع الأمني والتأسيس لصراع اجتماعي يضع البلاد على كف عفريت وكان هؤلاء يجهلون موقف واشنطن والدول الغربية من هذه الحركة التي يجري التعامل معها كحركة سياسية تمتلك شرعية مقاومة الدولة المركزية لحسابات تصب في المصلحة الأمريكية والغربية وليس لمصلحة الاستقرار في اليمن.
قبل أيام قلائل انتقد أحد الصحفيين الدور المبالغ فيه الذي صار يلعبه مبعوث الأمم المتحدة مشيراً إلى أن هذا الدور بات يظهره وكأنه هو الحاكم الفعلي لهذا البلد وليس وسيطا تتركز مهمته على تقريب وجهات النظر المتباعدة بين الفرقاء وتعزيز الثقة بما يدفع بهم إلى تصفير الأزمات وإسقاط كل الهواجس والتحرك سويا لبناء دولتهم الجديدة في اطار الشراكة الوطنية وروح الإخاء والتفاهم الخلاق وقد فوجئت في اليوم التالي أن مثل ذلك الانتقاد قد جوبه بحملة من التسفيه الإعلامي والتحريض على ذلك الصحفي في دفاع مستميت على المبعوث الأممي بصورة لم نراها في أي دفاع عن رئيس الجمهورية أو رئيس حكومة الوفاق وفي ذلك دلالة واضحة على أننا قد أسقطنا واستبعدنا من قاموسنا كل ما يتصل بالغيرة على استقلالية القرار الوطني إلى درجة صرنا فيها نثق بالخارج أكثر من ثقتنا بأنفسنا بل إننا جردنا الإحساس بالوطنية من مفهومه ومضمونه تحت تأثير النوايا الحسنة بالخارج والذي لا يمكن أن تكون أهداف تدخلاته من دون ثمن سياسي و اقتصادي وهو الثمن الذي برزت بعض ملامحه وأدواته في الحالة العراقية والسورية وحالات أخرى لا تغيب عن ذهن أي نابه.
وعلى هذا الطرق غير المستقيم هاهي بركات الخارج تنهمر علينا لتجعل من هذا البلد أشبه بمزرعة للتجارب إذ لم يكتفِ بأن يصبح قرارنا السياسي مرتهناً لتقارير جمال بنعمر المرفوعة لمجلس الأمن بل إن هناك من شاء أيضا أن يجعل من مسارنا الاقتصادي والتنموي مرتهناً هو الآخر لنصائح سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطيني السابق الذي دفع به كخبير استراتيجي لتسريع استيعاب المنح بوصفه الرجل الذي يحظى بثقة البنك الدولي والإدارة الأمريكية ليكن أمينا على أموال المانحين الذين أظهروا ربما أنهم لم يعودوا يثقون باليمنيين الذين وإن توفرت فيهم الكفاءة؛ فإن وطنيتهم هي من قد تحول وتمرّر بعض الجرع الاقتصادية التي يضغط البنك الدولي على ضرورتها حتى وإن أدى ذلك إلى تحويل المجتمع اليمني كله إلى كتلة سكانية من الفقراء والجوعى.
وأياً كان موقفنا من هذا الارتهان للخارج, فإنه الذي أسقط ورقة التوت الأخيرة عن عورات النُّخَب السياسية والوطنية المنقسمة على نفسها والتي بسبب انقسامها ظل اليمن يتخبّط في أزماته ومسلسل صراعاته التي ما إن تنتهي حلقة منها حتى تتبعها أخرى أشد تشابكاً وأكثر تعقيدا وما يبعث على الأسى هو إصرار هذه النخب على شد وثاق الناس إلى الباطل الموغل في الغباء والسذاجة حين يحاول الكثير منهم إقناعنا اليوم بأن أي حلول في اليمن لن تكون ممكنة من دون عصا الخارج الغليظة دون إدراك من هؤلاء أن سُلّم الأولويات بالنسبة للأطراف الدولية التي توافقت بالأمس على جعل اليمن تحت رقابتها هي من قد تتغير في أية لحظة ومثل هذا الأمر أصبح وارداً أكثر من أي وقت مضى بعد الهزة العنيفة التي تعرضت لها علاقات الدول الكبرى عقب انسلاخ شبة جزيرة القرم من أوكرانيا الموالية للغرب وإعلان انضمامها إلى روسيا ومثل هذا التطور هو ما قد يعيد العالم إلى زمن الحرب الباردة والثنائية القطبية بحيث يصبح هناك شرق وغرب لا يلتقيان لا في اليمن ولا في غيره من الساحات الملتهبة.
علي ناجي الرعوي
ما يبرر الركون على الخارج !! 2293