بعد الركود الكبير الذي شهدته الساحة الثقافية في بلادنا نتيجة للانشطار العميق في شخصية المثقف والتهميش الكبير الذي يجدهُ المثقفون من قبل الساسة وأصحاب القرار والقائمون على البنية الثقافية والإبداعية للمجتمع، وبعد هذا الاضمحلال في مستوى الفنون الإبداعية الشعبية وطغيان ثقافة المحاكاة التي تحاول تقليد ثقافات شعبية لمجتمعات مغايرة.. بعد هذا بمجملة تظهر اليوم حركات وبرامج وأنشطة ثقافية تحاول كسر هذا الجدار من الركود والتبعية وبإغراق الساحة برؤى وأفكار ومواهب إبداعية متنوعة لا يجد أصحابها الفرصة الجيدة لإظهارها على أرض الواقع في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية لا تخفى على المجتمع، غير أن بقاء المشهد الثقافي خالياً من ذلك الزخم المتنوع لثقافتنا المحلية دفع بالكثير من أصحاب الغيرة الإبداعية لتبني أنشطة ثقافية راقية تسعى للتجديد وبث دماء الفكر الراقي في عروق هذا الجسد المثخن بجراح الإقصاء والتورية ولهذا أصبح من السهل مؤخراً إدراك التغييرات التي طرأت على مسرح الثقافة المحلية بانتشار حركة النشر والطباعة، بالإضافة إلى تخصيص الجوائز التشجيعية للمبدعين من الجنسين في مختلف المجالات الثقافية مع عدم إغفال الجانب العملي والبحثي الذي يظهر بجلاء حركة التمرد على الواقع ومحاولة تعديله ممن يملكون فكراً نيراً ورؤى بعيدة وقدرة على التغيير.

 اليوم يحصد الشباب والشابات جوائز عديدة قد لا تكون كافية للتعبير عن المستوى الثقافي الذي وصل إليه هذا الجيل التكنولوجي، لكنها كافية لإظهار حجم المهتمين بها من كافة المستويات والشرائح الاجتماعية من خلال استعراض الأعمال المقدمة لنيلها وتنشيط حركة التعارف بين مختلف الفئات الساعية لإثبات وجودها، ورصد الحيثيات الأدبية لها وهذا في حد ذاته دافع قوي لبقاء الحركة الثقافية في حالة نشطة, لما تبعثه هذه الجوائز من مشاعر قوية للمنافسة والتميز وتقديم الأفضل، ولعل المعوقات الاقتصادية من أهم ما يعرقل مسار المثقف في أي بقعة من هذا العالم، لأن هذا يجعله أكثر إحجاماً عن رفد الواقع الاجتماعي بالأعمال والروائع التي ينتجها خياله استناداً منه على خلفية كاملة حول موقف الساسة وأصحاب القرار من المثقف بوجه عام وصاحب الفكر الخصب القادر على قراءة واقعه ومستقبل الأحداث فيه بشكل خاص، لكن تطوير العلاقة بين المثقف ومن بيده القدرة على اتخاذ أو صناعة القرار لا تحتاج فقط إلى حشد الطاقات وتقديم الجوائز، وإنما يبقى المثقف والمبدع بحاجة إلى من يتبناه بشكل يضمن بقاء إنتاجه الفكري في دائرة الضوء وبعيداً عن كل مزايدات أو استثناءات أو وساطات قد تعكر صفو هذا المشهد الذي لا ينبغي أن يبقى إلا نقياً وطاهراً من أي شوائب، فالمثقف إنسان متمرد وتحكمه طقوس متفاوتة من خيالات متنائية، لكنه في ظل سياسات كتلك التي تغشى مجتمعنا يبقى منكسراً بين خيارين لا ثالث لهما، إما أن تثقفه السياسة أو أن يسيس هو ثقافته!.. كلاهما وارد الحدوث اليوم ومن لا يقرأ لا يعلم.