أخشى أن تكون جميع الأطراف المعنية؛ من دولة ومجتمع وأحزاب ومنظمات ونقابات وفعاليات، قد اعتادت على الجرائم الجماعية التي تُرتكب بشكل متواتر منذ عامين ضد مؤسستي الجيش والأمن ومنسبيهما وأفرادهما وضباطهما.
ذلك أن الاعتياد على هذه الجرائم الجماعية المنظمة والشنيعة، وتطبيعها في الذهن العام، باعتبارها فعلاً عادياً ومألوفاً، يعتبر استسلاماً للجماعات الإرهابية ومن يقف خلفها ويحرّكها من العصابات المافوية التي فقدت سلطتها، أو المحاور الإقليمية التي تسعى إلى استخدام اليمن ساحة صراع إقليمي، أو تسعى لتفكيك دولته لإعادة رسم خارطته السياسية من جديد.
مؤسسة الجيش اليمني بوضعها الراهن- وما يمكن أن يقال عنها من ضعف وتفكك- قادرة بوضعها الحالي على حفظ أمن اليمن واستقراره ووحدته وكيانه الوطني، والذين يقتلون الجنود كما حدث بهذه الهمجية البدائية المقزّزة التي شاهدناها في حضرموت يدركون ذلك جيداً، ويستهدفون مؤسسة الجيش اليمني من خلال قتل الجنود والضباط والتنكيل بهم وبجثثهم، وخرق كل المعايير والأخلاق والضوابط في عمليات الاستهداف لمعسكراتهم وتجمعاتهم.
كنّا نتوقّع أن تشهد المرحلة الانتقالية بعض العنف، وبعض البروز للحركات المذهبية والهوياتية، وضعفاً إلى حد ما في سلطة الدولة، ولكننا لم نكن نتوقّع كل هذه اللامبالاة، ورد الفعل الباهت أمام جرائم جماعية تستهدف تقويض البلد بشكل عام من خلال تقويض مؤسستيه الأمنية والعسكرية، وبهذه الهمجية التي تستهدف الضباط والجنود في مقراتهم ومعسكراتهم.
هذا الوضع مدعاة للاستنفار، ومراجعة كل شيء؛ ابتداء من جاهزية المعسكرات ونظم تسييرها؛ وانتهاءً بسياسات الحكومة وطريقة إدارة مؤسساتها.
ما حدث في حضرموت من جريمة همجية في ذبح الجنود والضباط في نقطة الضبي حدثت قبلها جريمتان متماثلتان معها وبنفس المعطيات والحيثيات في نقطتين عسكريتين في عزان محافظة شبوة وفي سيئون، وقبل ذلك في السجن المركزي بالعاصمة صنعاء ومجمع الدفاع بالعرضي، وقبل ذلك كله ما حدث في السبعين وفي المنطقة العسكرية بالمكلا ومعسكرات المنطقة الجنوبية في أبين وعدن، وسلسلة اغتيال مئات الضباط من منتسبي الأجهزة الأمنية وخصوصاً الأمن السياسي وغيرها؛ حوادث إجرامية كبيرة تستدعي المراجعة والاستنفار والغضب.
هذه السلسلة المتشابكة من الجرائم تستهدف تقويض الثقة بالجيش اليمني وتدمير روح الانتماء والتضامن داخل المؤسستين الدفاعية والأمنية، وتدمير ثقة الشعب بحماة الوطن وحراس الأمن، وهو هدف تجتمع عليه كل الجماعات ما قبل الوطنية ابتداءً من تنظيم القاعدة الإرهابي، ومروراً بجماعة الحوثي المذهبية، وبينهما من فقدوا سلطتهم في صنعاء وبيروت، وخلف كل ذلك القوى الإقليمية التي تلعب «شطرنج» على الساحة اليمنية.
إن مسؤولية القيادات العليا في مؤسستي الجيش والأمن ومسؤولي الدولة كلها بجميع مستوياتها مسألة جوهرية وحاسمة في ما آلت إليه الأوضاع التي تكشفها هذه الجرائم المروعة، فليس من المعقول أن ينام عشرات الضباط والجنود في معسكر أو نقطة أمنية أو مقر عسكري دون وجود أي ترتيبات أمنية معروفة للجميع، من مناوبات ونقاط حماية متقدّمة وغيرها من الإجراءات التي يفهمها أي جندي مبتدئ وليس فقط منتسبي القوات الخاصة الذين غدر بهم وقتلهم الإرهابيون واحداً تلو الآخر وهم نيام..!!.
يحتاج الجميع إلى مراجعة ثقافتهم التحريضية ضد الجيش اليمني والمؤسسة الأمنية، فإذا كانت الجماعات المتطرّفة كالقاعدة والحوثيين ينظرون إلى وجود مؤسسة عسكرية وأمنية متماسكة خطراً على مشاريعهم، فإن قطاعات حزبية وثقافية ومدنية انخرطت بشكل أو بآخر في الفترات الماضية في التعبئة والتحريض ضد «العسكر» بشكل عام، انطلاقاً من عدائها للنظام الحاكم، وامتداداً لصراعها معه.
لم تفرق هذه الحملات الغاضبة من تلك الأطراف بين إرادة النظام السياسي الحاكم آنذاك ومؤسستي الجيش والأمن كمؤسستين وطنيتين لا ذنب لهما في كون الإرادة المهيمنة على الدولة ومؤسساتها سابقاً إرادة فردية عائلية صغيرة.
نعم.. لم تكن المشكلة قائمة في مؤسستي الجيش والأمن وإنما في الإرادة الفردية السلطوية التي هيمنت عليهما مثلما هيمنت على كل مؤسسات الدولة والمجتمع بشكل عام.. وكان المفترض هو تحرير مؤسستي الجيش والأمن من هذه الإرادة الصغيرة وإعادتهما إلى وضعهما الطبيعي في خدمة الإرادة الوطنية الجامعة والمصلحة العامة؛ سيجد اليمنيون أن هاتين المؤسستين هما الضامن الأكبر لاستقرار بلدهم ووحدته وتماسك كيانه الوطني.
وبالرغم من الخطوات الكبيرة التي قُطعت في هذا المجال لتوحيد الجيش وإعادة هيكلة المؤسستين الأمنية والعسكرية، فإن الوضع الحالي، وتحديداً الجرائم المشهودة التي شهدناها في الأشهر الأخيرة وآخرها جريمة حضرموت ضد أفراد وضباط القوات الخاصة؛ هذه الاختراقات الكبرى تقول لنا إن الوضع بحاجة إلى مراجعة عاجلة، وتغييرات بنيوية حتى لا نصل إلى مرحلة الانهيار الأكبر لهاتين المؤسستين الوطنيتين، وهو الوضع الذي سيهدّد اليمن كلها بالانهيار؛ دولة ومجتمعاً.
كان تعيين وزير الداخلية الجديد خطوة في اتجاه التغيير ومراجعة الأوضاع المختلّة، ويحتاج الأمر الآن إلى استكمال بقية خطوات المراجعة المطلوبة.
مصطفى راجح
الحرب الغامضة لتقويض الجيش والأمن..!! 1402