على إثر إطلاق المعتقلين والأسرى قدر لي الحكم على تعامل الجيش والحراك مع معتقليهما وأسراهما؟ فطرف هنا يمثل الدولة والنظام وآخر يفترض أنه خارج على الاثنين؛ ومع كونهما كذلك كان تعامل الحراك لائقا وإنسانياً مقارنة بتعامل الجيش الذي كان قاسيا ومهينا للآدمية.
رأيت هذه اللياقة والمهانة في وجوه وأبدان ولباس المفرج عنهم، ففتيان تم خطفهم من حافلة سالكة في نقطة أمنية في طريق عام، يقابلهم جنود تم اعتقال بعضهم في طريقة مماثلة فيما البعض الآخر تم أسرهم في ظرفية مختلفة.
المفرج عنهم من معتقل حماة الوطن والمواطن لا توحي لك صورهم بفتيان في ريق عمرهم، بل أنت إزاء وجوه كالحة يكسوها البؤس والهلع والوسخ وخيوطه وتجاعيده البارزة للعيان كما وتجد ذاتك أمام أبدان كهلة متعبة هزيلة تدثرها ثياب قذرة تنبعث منها رائحة نتنة، تحدق مندهشا في هياكل بشرية انتهكت طفولتها وبراءتها وحريتها التي لم يكتف بحجزها في معتقلات غير نظامية وغير خاضعة لقضاء أو نيابة إذ تم تصفيدها بأغلال لا تستخدم اليوم لكبار القتلة والسفاحين.
يقابل مأساة هؤلاء الفتيان – لا حظوا إنني لم أشر لأسرى الحراك – جنود تم الإفراج عنهم من معتقلات الجماعات المارقة العابثة بالسكينة والحياة..جُند لا نعلم حقيقة كيف تعامل معهم وقت اعتقالهم أو أسرهم؟ فبكل تأكيد انهم تعرضوا لإساءة من أي نوع؛ لكن وعند مقارنتهم بنظرائهم المعتقلين في المعسكرات فحتما الفارق شاسع وواضح في وجوه وأبدان وحتى ملابس الجنود، فعلى الأقل رهائن الجيش والأمن رأيناهم نظافا بدنيا وظاهريا فضلاً عن أن حالتهم لا يبدو عليها أثار قيود أو هزال جرا سوء التغذية.
الولاء المفقود
المسألة الثانية التي رأيتها ماثلة خلال الأسابيع الفائتة فلها صلة وثيقة بصميم الدولة " الولاء ", لا اخفي عليكم بجزعي على هذه الدولة المنتهكة بولاءات ضيقة لا تنم مطلقا باحترام والتزام وواجب تجاه نظامها ومؤسستها وقوانينها. فهذه لجنة رئاسية مكلفة من رئيس الدولة ومع ذلك تجدها في واقع الممارسة كأنها طرف وسيط يمثل قبيلة أو جهة لا سلطة لها على قائد عسكري أو أمني، فبرغم أن الاثنين هما في النهاية يمثلان الدولة حكومة ورئاسة ونظاما وعرفا وصلاحية وسلطة إلا أن الحال أثبت أن التعامل مع اللجنة تم بثقافتين مكتسبتين من ولاءين متضادين متنافرين.
ما حصل هو أن اللجنة الرئاسية وجدت نفسها تتوسط بين طرفي نزاع, الأول يمثل الدولة الذي يفترض أن اللجنة الحكومية أو الرئاسية أو حتى الوزارية تمثله فيما الآخر يتمثل بجماعة الحراك المسلح الذي يعد فعله وتصرفه منتهكا لنظام الدولة, لقد كان الأولى باللجنة الرئاسية أن تكون مهمتها وجهدها منصبا في وقف إطلاق النار وتحرير جُند الدولة من قبضة الجماعة المسلحة أما الجيش والأمن وقادتهما فهما في المحصلة تحت سلطة وصلاحية لجنة الرئاسة.
فإذا كان القائد العسكري أوالأمني وجنودهوضباطهوقوته لا يخضعون لسلطة وزير أو محافظ أو مفوض حكومي ورئاسي فكيف سيكون الأمر مع قوة وقادة خارجين على سلطة الدولة ونظامها وقوانينها؟ نعم إن الأحداث الأخيرة تبدو في ظاهرها وكأنها بين جيش الدولة وجماعة مارقة على هذه الدولة.
للأسف هكذا هي الصورة المتكونة لدى الكثير ممن يجهلوا أسباباً كامنة في أعماق الإنسان المجسد للدولة..في كلا الحالتين نحن إزاء تمرد مسلح وكل واحد يمارسه بمقدار ما يمتلكه من قوة ونفوذ وولاء لا علاقة له بمصالح الدولة والشعب.. المسألة لا تتعلق فقط بالعميد ضبعان وجنوده وإنما اعدها معضلة عامة مشاهدة في أكثر من وحدة عسكرية، فيكفي الاستدلال هنا بوساطة ممثل الهيئة الأممية لإنفاذ قراري رئيس الدولة في القوى الجوية واللواء الثامن حرس جمهوري.
تصوروا لو أن اللجنة الرئاسية أو الحكومية كانت وجهتها قائد منطقة أو لواء جنوبي – آسف لهذه التصنيف المقيت – فهل كنا سنرى الجيش طرفاً أم تابعا لتوجيهات وأوامر اللجنة؟ وهل كنا سنرى محافظا في جهة والقائد العسكري في ناحية؟ وهل كنا سنرى جنوداً وضباطاً يتظاهرون للمطالبة بإطلاق زملائهم أو يكتبون وثيقة ولاء لقائدهم ممهورة بدمهم؟.
نعم قد احتمل الفعل المشين إذا ما اقترفته عصابة أو جماعة أو شخص؛ لكنني لا أقبل مطلقاً أن يصير جيش الدولة وحُرَّاسها الأشاوس قوة مختطفة منسلخة من الدولة، فهذه القوة عندما تؤول قوة للبطش والقمع والقتل، وقوة لا تخضع للجنة أو وزير أو قانون ونظام، وقوة ولاءها للقائد وللقبيلة وللمنطقة وللجغرافيا المنتمي لها ضباط وجنود وقائد اللواء أو الكتيبة؛ فإنها في هذه الحالة قوة متمردة وضررها أكبر فداحة وكارثية من عصابة امتشقت السلاح رغبة في تحقيق مكاسب شخصية أو سياسية أو فئوية، ففي النهاية الدولة دولة وإن ضعفت ووهنت وقتيا والعصابة عصابة وإن ذاع
محمد علي محسن
مفارقة حزينة... 1612