ينعتني ذلك المتعجرف بأنني أتنكر لهويتي وأنني أترنح في مفترقات الطرق أبحث عن هويتي في زحام تلك الانتماءات التي لم نعد ندري أهي وطنية حقيقية نابعة من حب الوطن والانتماء,؟ أم أنها موسمية تصدح بها الحناجر في تلك المحافل وبين الرفاق وفي الساحات والميادين؟
لم نعد ندري البته, هل الوطنية والهوية والانتماء للوطن (فطريّ) يجبل عليه الإنسان ويطعم به جسد منذ تلك اللحظات التي يرى ناظريه فيها نور ذلك الوطن ويتنفس أنسامه أياً كانت, ملوثة, أم نقيه أم خليط من هذا, حتى أننا احترنا في وطنية الكثير ممن (ينعقون) بها ويتشدقون بها في كل مكان بل ويدافعون عنها بكل الوسائل والطرق الممكنة وغير الممكنة,ليس إيماناً منهم بها ولكن ربما لشيء في نفوسهم أو تقمصاً لذلك الدور الذي يلعبه الكثير ممن نظن أنهم وطنيون حقيقيون, يعشقون أوطانهم حد الثمالة, ثم لا تلبث حقائقهم أن تنكشف ووطنيتهم تتلاشى تحت مبررات وحجج واهية لا يقبل بها عقل أو منطق..
متناسيين أن الهوية والوطنية, وعشق الوطن, لا يأتي بتلك الشعارات الجوفاء وذلك الصراخ المفتعل وتلك النقاشات العقيمة التي لا تستند على أي أسس أو محبة صادقة نابعة من الجوف وخالية من أي زيف أو مصلحة, أو غاية, أو مآرب تكون الهوية الموسمية فيه هي (السلم) الذي يصعد من خلاله هذا أو ذاك الذي يدعي الوطنية والهوية والإخلاص لوطنه وانتمائه الهش..
فمن يعشق الوطن ويعشق ذرات رماله وأنسامه وصباحاته ومسائه وتقلباته, وأوجاعه وأفراحه لن تغيره الخطوب والظروف والمحن, والمشاكل التي تعصف بوطنه, بل تزيد من عشقه وحبه له وتسبل مدامعه دون انقطاع حرقة وحسرة وألم على ذلك الوطن, فيسعى جاهداً لأن يطبب جراحه ويلملم أشلاءه ويجمع شتاته ويخفف أنينه وآهاته, دون أن يكون ذلك (المعول) الذي يدك حصونه وتلك الرصاصة التي تريق الدماء في أزقته وشوارعه وذلك الظلام الذي يخيم على أهله ودوره, أو ذلك الحزن الذي يحفر عميقاً بين ثناياه ويشق طريقه نحو الدواخل ليفتته ويمزقه..
الهوية أبدية لكل من يعرف أن الأوطان تعشق على كل الأحوال ومهما تقلبت الأزمان أو تتالت الأيام أو تعاقبت السنين, ومهما نهشت مخالب المخربين, والمفسدين جسده, أو تناوحته سياسياتهم القذرة, أو أملاءتهم التي تشتري الضمائر والمبادئ والأخلاق, من ضعاف النفوس وممن تكون وطنيتهم وهويتهم موسمية, كالطقس المتقلب تميل حيث الرياح تميل فتمطر تارة وتتوقف أخرى, وتظلم حيناً وتشرق حيناً آخر..
فهل يدرك هؤلاء أن الهوية والوطنية هي تلك الكف التي تصفعنا ونقبل الكف التي تصفعنا, هي تلك الآلام التي نتجرعها ونستسيغ مذاقها ومرارتها ومرها, هي تلك الجراح التي تستنزق قوتنا وتسرق أعمارنا ومع هذا وذاك فلا أجمل ولا أروع منها, لأن عشق الأوطان والهوية ليست في الرخاء والنعيم وراحة البال بل هي في السراء والضراء في المحن والمصائب وفي الحل والترحال..
فهد علي البرشاء
الهوية أبدية ..أم موسمية ؟ 1157