بدلاً من أن تعطيني كل يوم سمكة علمني وسيلة لاصطيادها "حكمة صينية عظيمة أجدها حاضرة بقوة في هذه البلاد التي تتجسد في معاناة أهلها قولة الشاعر المعري :
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ.. والماء فوق ظهورها محمول
نعم.. ما أحوج الإنسان في هذه البلاد إلى الوسيلة وإلى الفكرة وإلى الفرصة وإلى القادة الملهمين المانحين شعوبهم الإلهام والأمل والعزيمة.. فما من أمة فقيرة أو غنية ولدت من الفراغ والعدم ومن الأمنيات والأدعية ومن الخمول والجهل؟ فكل قوة ووهن على ظهر البسيطة هما في المحصلة نتاج فعل بشري لا نتاج هبة وعطية نزلت من السماء ولقوم دون سواهم من ذرية آدم .
يتملكني الإحباط حين أرى مجتمعا أسيراً لمعتقداته الخاطئة المترسخة في ذهن الكثير من نطلق عليهم مجازاً نخباً وساسة.. فهذا المجتمع لديه طاقة وقابلية لأن يثبت وجوده وتفوقه على فقره وجهله وسقمه وتخلفه؛ لكنه- ومع كل استعداده لخوض تجربة الدولة الحديثة الناهضة المستقرة- لم يعثر على قادته الموجهين الملهمين المانحين إياه الفرصة والوسيلة كيما يستثمر طاقته الكامنة في ذاته.
أجزم أن مجتمعنا لا يعاني من الفقر والجهل والسلاح والقات والفساد المهدر لموارده وثروته وقدراته فحسب وإنما أيضا من فقدان القيادة الاستثنائية الملهمة الحاملة على كاهلها مهمتين أساسيتين وملحتين أولها تحرير الإنسان من ربق معتقداته الضيقة القبلية والمذهبية والجهوية والمناطقية، وتاليها تأهيله ذهنياً وفكرياً ومعرفيا وسلوكيا وبما يجعله معتمدا على قدراته ومواهبه وموارده.
لست هنا بحاجة للتذكير بأهمية القائد الملهم الثقة، فيكفي الإشارة إلى ما حققه اسكافي الأحذية لولا دا سيلفا لبلده البرازيل وخلال ثمانية أعوام, طبيب الأطفال مهاتير محمد لماليزيا المتخلفة اقتصاديا ومجتمعيا.. المتناثرة جزرها مثل أثنيتها العرقية والطائفية المتصارعة.
فبرغم هول بؤسها وتخلفها قدر لرئيس حكومتها قيادتها والبلوغ بها لمصاف عشرين دولة صناعية وفي ظرفية عشرين سنة ربما اعتبرها مناوئة طويلة بمقياس الديمقراطيات.. خوسيه ازنار كان له تجربة الطاؤوس الأسباني الذي بات الآن متبخترا يزاحم كبار الاتحاد الأوربي رغم فقيرة للموارد إلا من وفرة الزيتون ورغم تخلفه الزمني الناتج عن عقود من التطاحن الأهلي الدموي.
كوريا الجنوبية بدأت مسيرتها الصناعية والديمقراطية مع لفظ عقد السبعينات وحلول الثمانينات، والمدهش في نهضة كوريا أنها قامت على بقايا مخلفات اليابانيين المحتلين لها قبل استقلالها إذ مثلت تلكم التركة من الورش والمعامل والمنشآت الصناعية المتواضعة نواة لصناعة كوريا المنافسة اليوم بقوة لأكبر عشرة دول صناعية في العالم .
حدث ذلك وفي بلد فقير إلَّا من كثافة جباله الملتهمة لثلثي مساحته وكذا كثرة الزلازل والبراكين كما والأكثر دهشة هو أن هذا التحول قاده جنرال عسكري في الجيش لا زعيم سياسي وحزبي.
سنغافورة المستقلة من الوطن الأم ماليزيا منتصف الستينات فبرغم مساحتها التي لا تتعدى مساحة محافظة يمنية وفوق ذلك شحيحة الموارد فباستثناء مينائها البحري الجزيرة لا يوجد بها حتى مياه كافية للشرب ومع كونها بلا موارد نفط أو غاز أو زراعة حظيت بقائد مثل لي كوان يو أول رئيس حكومة مستقلة عن ماليزيا.
فما من قارئ منصف لقصة سنغافورة المعاصرة إلا ويعد نهضتها حصيلة قائد استثنائي ملهم يحسب لفكرة ودأبه ونبوغه وضع الجزيرة في ذرى التجارة العالمية.
وهنالك الكثير من النماذج التي لا يتسع الحيز لذكرها كشواهد حية لعظمة الاعتداد بالإنسان باعتباره أقنيما لكل نهضة وحضارة وقوة وازدهار, هذه البلاد يوجد فيها شعب لديه من الطاقة والموارد والقدرات والإرث والأفكار ما تؤهله لبناء دولة قوية مزدهرة مستقرة.
نعم طاقة خلاقة منتجة لكنها ويا للأسف خاملة عاطلة عطبة ينقصها القيادة الجامعة لشتاتها ، الملهمة لشعبها، الموجهة له، المعتدة به كقوة وطاقة وإبداع وثروة لا تضاهيها قوة أو ثروة.
طاقة حيويتها في أنها مستغلة – بفتح الغين واللام – لانهاك البلد وتثبيط عزائم مجتمعه وتمزيق أوصاله في صراعات وحروب وخلافات أنانية ضيقة فاسدة.
نعم.. أرى رئاسة وحكومة ووزارات وهيئات ومحافظات, لكني لا أرى قادة ملهمون.. أرى ألقاباً وأسماء وثرثرة كثيرة لكني لا أرى أفعالا وأفكاراً ورجالا كمخلصين وكبار يمكن الاعتداد بهم كقادة ملهمين جديرين بقيادة بلد كهذا الذي تتنازع مجتمعه الصراعات الفئوية العصبية الجغرافية المذهبية الأنانية الشخصية فيما هو بضرورة لباعث الأمل والتفاؤل والإنجاز الجمعي الأكبر والأشمل.
محمد علي محسن
شعب على مفترق زمن!! 1419